من الصفوف إلى الهواتف .. التنمر ينتقل لـ العالم الرقمي

نبض البلد -

المساد: عقد برامج تربوية مشتركة بين المدرسة ومحيطها الاجتماعي

الرجبي: الذكاء الاصطناعي أداة بكشف ومنع التنمر الرقمي

الدهون: تعزيز ثقة الطفل عبر ممارسة الأنشطة الإيجابية

 شذى حتاملة

مع التطور التكنولوجي وهيمنته على تفاصيل حياتنا اليومية والانتشار الواسع لاستخدام الاطفال للهواتف الذكية لم تعد ساحات التنمر محصورة فقط داخل جدران المدرسة بل امتدت إلى شاشات الهواتف الذكية فيما يعرف ب "التنمر الالكتروني" حيث اصبحت منصات التواصل وسيلة وساحة له لممارسة اشكال متعددة من الايذاء اللفظي والنفسي بدءا من الرسائل الجارحة ونشر الصور الخاصة والذي يمارس احيانا من قبل اسماء وهمية فهو لا يقل خطورة عن التنمر التقليدي بل يفوقه ، إذ قد يتعرض له الطفل باي وقت وباي مكان دون قدرة على الهروب أو المواجهة، من هنا تبرز الحاجة لتسليط الضوء على هذه الظاهرة وتوعية المجتمع بمخاطرها .
وحول ذلك الدكتور محمود المساد، المدير السابق للمركز الوطني لتطوير المناهج، أن نجاح النظام التربوي يكمن في توفير تعلم ذي جودة عالية يرتكز بشكل أساسي على طبيعة البيئة المدرسية، من حيث غناها وتنوعها، وتوفر متطلبات التعلم النشط فيها، إضافة إلى مستوى الإيجابية الذي يسودها ومدى انفتاح قنوات التواصل بين جميع أطراف العملية التعليمية، مشيرا إلى أن أهمية تهيئة بيئة مدرسية دافئة ومريحة تحفّز الطلبة على الانخراط في تعلم ممتع وفعّال، مشدداً في الوقت ذاته على دور الإدارة المدرسية الفعالة في ضبط المناخ المدرسي وتهيئة الظروف المثلى لتحقيق تعلم مثمر.
بالمقابل، عبر المساد عن قلقه من تفشي سلوكيات سلبية في بعض المدارس، وعلى رأسها ظاهرة "التنمر" والذي يعتبر سلوكا عدوانيا متكررا يهدف إلى إيذاء طالب أو مجموعة، طالبا آخر أو مجموعة أخرى عمداً ، ذكوراً أو إناثاً دون تمييز، سواء جسدياً أو نفسياً أو اجتماعياً ،حيث يشمل التنمر مجموعة من الأفعال والسلوكيات التي تهدف إلى السيطرة على الآخرين وإيذائهم .
وتابع أن البيئات المدرسية الجافة لا تساعد على تنفيذ عمليات التعليم بالشكل والآليات الطبيعية، كما ولا تدعم المتعلم بأن يتمكن من تعلم المعرفة والمهارات حتى بالحد الأدنى، خاصة إن زادت سلوكيات التنمر بأشكاله المختلفة سواء الوجاهي والإلكتروني، موضحا أن كلاهما يعوق المعلم عن العطاء والرضا عمّا يعطي، مهما كانت قدراته ومهاراته،كما لايُمكّن للمرشد التربوي ومدير المدرسة من تقديم الدعم اللازم لنجاح عمليات التعلم الفعال.
واشار إلى أن هناك أسباب حقيقية أنتجت هذا السلوك العدواني مرتفع الحدة، أو رفعت من درجة عنفه، وزادت بمساحة انتشاره، وقوة تأثيره على تعطيل سير التعليم والتعلم ، فقد نجد من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والتربوية الكثير، مبينا أن الأكثر أهمية هو حالة العنف والتوتر المجتمعي المرافقة للحروب الجارية في الأقليم ، وحالة النشر الإعلامي المكثفة في التلفزة الفضائية ووسائط التواصل الاجتماعي التي يتأثر بها الطلبة ويتعايشون معها.
وبين أن وسائط التواصل والتطبيقات المختلفة التي أنتجها الذكاء الاصطناعي، فضاءات حرة مفتوحة سهلة الاستعمال ومغرية للتنمر الإلكتروني خارج أوقات الدوام المدرسي، بحيث نقلت التنمر المباشر الوجاهي إلى إلكتروني مستمر طيلة الوقت، لافتا إلى أن دائرة التنمر توسعت وتعمقت درجات الإيذاء النفسي والاجتماعي، ونشره إلى العلن إلى ما يشبه الفضائح، بحيث أربكت مناخات التعلم وتراجعت به إلى مستويات متدنية ، مشددا أن التنمر الإلكتروني جاء امتدادا للوجاهي المحدود على طلبة المدرسة الواحدة، ليتسع ويتعمق وينتشر على الملأ، وإلى أن يصبح ترند مؤذي على مستوى الوطن وأكثر.
ودعا إلى ضرورة التهدئة والتهذيب في هذا المجال عبر توظيف منظومة القيم والمبادئ الأخلاقية في المناهج التعليمية ومصادر التعلم المختلفة التي يتعرض لها الطلبة وأهمها المعلمين ونماذج القدوات، والمؤثرين منهم في تعديل سلوك الطلبة، غير ذلك أن يدعم ذلك تشريعات رادعة وبرامج إرشادية تربوية مجدية في تعديل السلوك وضبط إيقاعاته بما يتوافق وأعراف المجتمع وتقاليده الإيجابية القائمة على المحبة والاحترام.
ودعا إلى عقد برامج تربوية مشتركة بين المدرسة ومحيطها الاجتماعي، تهدف إلى تحسين بيئات التعلم ورفع درجة إيجابيتها، مع تكثيف المتابعة الإرشادية، وحظر استخدام الموبايل داخل المدرسة، منوها الى اهمية متابعة الأهل لما يتابعه الطلبة من تطبيقات ومحتوى إلكتروني، والتركيز على النشاطات وأساليب التعلم القائمة على المشاريع الضامنة لانخراط الطلبة في تعلم ممتع.

واوضح أستاذ الاعلام الرقمي المشارك في جامعة الشرق الاوسط محمود الرجبي، انه رغم إعلان كبرى شركات التواصل الاجتماعي، التزامها بالحد من ظاهرة التنمر الرقمي، فإن الواقع يكشف أن هذه الجهود لا تزال محدودة وغير كافية، مبينا انه غالبًا ما تتبنى هذه المنصات مواقف رد فعل بدلاً من اتخاذ إجراءات استباقية، وتعتمد بدرجة كبيرة على بلاغات المستخدمين للكشف عن المحتوى الضار، عوضًا عن توظيف أنظمة ذكية لرصده قبل انتشاره.
ولفت إلى أن هناك تفاوت واضح في تطبيق السياسات بين الدول، حيث تبدو الإجراءات أكثر صرامة في الدول الغربية مقارنة بالنامية، مما يترك المستخدمين في مناطق مثل العالم العربي مكشوفين دون حماية كافية ، مؤكدا انه لا تزال معايير الإبلاغ عن المحتوى المحظور أو المحذوف تفتقر إلى الشفافية أو الوضوح، وهو ما يضعف ثقة المستخدمين بآليات الحماية المتوفرة ، باختصار، ان شركات التواصل لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب من المسؤولية الرقمية في التعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة، ورغم ذلك أن هذه الشركات تستطيع أن تبذل جهوداً أكبر في محاربة التنمر الرقمي من خلال الخوارزميات، وهي قادرة على ذلك.

واشار إلى أن العالم الرقمي يمتلك عدة أدوات وتقنيات رقمية يمكن توظيفها لرصد أو الحد من التنمر الرقمي، ومن أبرزها أنظمة الفلترة الآلية للمحتوى، وتعمل على اكتشاف الكلمات المسيئة أو العبارات الجارحة وحذفها أو حظرها تلقائيًا ،كما تستخدم هذه الأنظمة قوائم محددة من الكلمات المفتاحية، ويمكن تخصيصها بحسب اللغة والمنصة، ويتم فِي العادة تحديثها بشكل كبير، والتركيز على مختلف اللغات واللهجات لضمان أكبر من الحماية، مضيفا أن بعض المنصات تستخدم خوارزميات متقدمة لتحليل أنماط السلوك (Behavioral Pattern Detection)، بحيث تتمكن من رصد تكرار الرسائل المسيئة أو الهجومية، حتى إن لم تحتوي على ألفاظ مباشرة ، كما أن أدوات الإبلاغ الذكية أصبحت أكثر تطورًا، حيث تسمح للمستخدمين بالإبلاغ بسرعة عن أي محتوى غير لائق، وقد ترفق بتفسير أو دليل مرئي.
وتابع هناك تطبيقات تستخدم من قبل أولياء الأمور أو المؤسسات التعليمية، مثل Bark وQustodio، والتي تتيح مراقبة المحتوى والسلوك الرقمي للأبناء، وتنبه إلى أي تهديد أو إساءة قد يتعرضون لها، كما يمكن استخدام تحليلات البيانات الضخمة لرصد الاتجاهات، واكتشاف الحسابات التي تقود حملات تنمر جماعي، خصوصًا في أوقات الأزمات.
وبين أن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة رئيسة في كشف ومنع التنمر الرقمي، رغم وجود تحديات تتعلق بالدقة وفهم السياق ، موضحا أن تقنية تحليل اللغة الطبيعية (Natural Language Processing - NLP) تلعب دورًا حيويًا في تمكين الأنظمة من فهم السياق والتفريق بين المزاح والتنمر الحقيقي، بالإضافة إلى التعامل مع المعاني الضمنية والسخرية.
وأشار الرجبي إلى أن هذه التقنية تتعامل بشكل جيد مع المحتوى العربي، مما يعزز فعاليتها في مكافحة التنمر الرقمي في الدول الناطقة بالعربية منوها الى أهمية تقنيات التعرف على الصور (Image Recognition) التي تساهم في رصد المحتوى البصري المسيء، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، وتستخدم بشكل واسع في منصات مثل تيك توك وسناب شات.
وقال أن بعض المنصات تستخدم الذكاء الاصطناعي في الرقابة الفورية، حيث يمكن للنظام إيقاف نشر تعليق مسيء فور كتابته، أو تنبيه المستخدم لاحتمالية خرقه سياسات المنصة، مما يحد من انتشار المحتوى الضار بسرعة وفعالية.
ولفت إلى أن قدرات الذكاء الاصطناعي لا تزال محدودة في عدة جوانب، منها عدم القدرة على فهم النية بدقة، والوقوع في التحيزات الثقافية واللغوية، بالإضافة إلى صعوبة تفسير بعض المعاني المجازية، وربما عدم استيعاب بعض المفردات في اللهجات العربية المختلفة، نظرًا لأن هذه النماذج غالبًا ما تدرب على اللغة الإنجليزية والثقافة الغربية.
وشدد على أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بمفرده لا يكفي، بل يجب دمجه ضمن منظومة شاملة تضم التربية الرقمية، والرقابة البشرية، إلى جانب تشريعات تنظيمية فعّالة، لتحقيق حماية حقيقية وفعالة للمستخدمين، لا سيما في البيئة الأردنية والعربية بشكل عام.
ومن الناحية النفسية اوضح المرشد النفسي والتربوي محمد عيد الدهون ، أن التنمر الإلكتروني يؤثر على الأطفال والطلاب بطرق متعددة، حيث يمكن أن يؤدي إلى انخفاض تقدير الذات لديهم، والشعور بالخوف والقلق، مما يدفعهم إلى الانعزال والوحدة، مضيفا انه قد يسبب مشاكل صحية ونفسية مثل اضطرابات النوم وتغيرات في الشهية، حيث يؤثر سلباً على الأداء الأكاديمي للطالب، مما يسبب صعوبة في التركيز وتراجع في التحصيل الدراسي ، وفي بعض الحالات، قد يدفع الأطفال إلى التفكير في الانتحار.

وفيما يتعلق بالعلاج، أكد الدهون أن الوقاية تعد الركيزة الأساسية في الحد من آثار التنمر الإلكتروني لذا من الضروري أن يحرص الوالدان على المتابعة المستمرة لأبنائهم، ومراقبة استخدامهم للمنصات الرقمية بشكل دوري، بما يسهم في حمايتهم من الوقوع ضحية لممارسات التنمر أو أي مظاهر سلوك منحرف كالتطرف ، كما يستحسن أن يكون هناك جسور من التواصل بين الأهل وأبنائهم حماية لهم من التنمر الالكتروني .
واكمل حديثه انه يمكن اتباع عدة خطوات نفسية تحسن من الصحة النفسية لدى الطفل الذي تعرض لتنمر الكتروني منها توفير بيئة آمنة وداعمة للطفل للتعبير عن مشاعره من خلال الاستماع الفعال له كما دعا إلى تشجيع الطفل على التحدث مع شخص موثوق به مثل الوالدين أو المرشد النفسي في المدرسة، مضيفا انه يمكن اللجوء إلى العلاج النفسي أو الاستشارة المتخصصة لمساعدة الطفل على التعامل مع الصدمة وبناء استراتيجيات للتكيف من خلال خطط تعديل السلوك التي تتضمن البرامج النفسية المستخدمة للوقاية من التنمر ومن خلال المهارات الاجتماعية والعاطفية خاصة نظرية التعلم الاجتماعي "للعالم باندورا " .
وطالب بضرورة تعزيز التعاطف وتعليم الأطفال كيفية التعامل مع التنمر والإبلاغ عنه ومن المهم تعزيز ثقة الطفل بنفسه من خلال الأنشطة الإيجابية وممارسة الهوايات المحببة له كما يجب على الأهل والمدرسة ومؤسسات المجتمع التعاون لمكافحة التنمر الإلكتروني من خلال برامج التوعية والتثقيف.