نبض البلد -
منصور البواريد
في زمن يتلاطم فيه الخطاب السياسي بالشعارات المستهلكة والمظاهر الجوفاء، يقف الأردن في قلب مشهد إقليمي معقد، تتداخل فيه المصالح والأوهام والأخطار، غير أنَّ أخطر ما يواجه الدول في مثل هذا الزمن ليسَ العدو الخارجي، بل الغفلة الداخلية، حين تنشغل النخب والجماهير بمظاهر الوطنية بدلًا من جوهرها، وبأصوات مرتفعة تردد شعارات محفوظة، بينما يغيب الوعي الحقيقي الذي يحفظ الوطن ويدفعه إلى الأمام.
الأردن اليوم ليس بحاجة إلى المزيد من الأعلام المرفوعة في المناسبات، ولا إلى أناشيد تصدح بها مكبرات الصوت في الساحات، ولا إلى احتفالات موسمية يتزين بها الخطاب الرسمي والشعبي؛ فهذا كله أدوات تجميل لا تصمد طويلًا أمام العواصف. ما يحتاجه الأردن في هذهِ المرحلة الحرجة هو وعي عميق، يتجاوز الزخرف اللفظي إلى إدراك عقلاني براغماتي لأبعاد المصلحة الوطنية، ولفهم أدق لتعقيدات الجغرافيا السياسية التي تحيط به.
فحين ننظر إلى المشهد الإقليمي والدولي بدقة، نلحظ أنَّ الأردن، رغم ضغوط محاوره المتعددة، لم يتحول إلى محور اتهام لا من إيران ولا من إسرائيل ولا من أي من الأطراف الفاعلة في المنطقة. إيران، رغم خصومتها العميقة مع إسرائيل وحلفائها، لم تضع الأردن في قائمة أعدائها أو في دائرة اتهامها بالتواطؤ.. بالمقابل، حتى إسرائيل، رغم أطماعها ومشاريعها الممتدة، لم تجد في الأردن تهديدًا مباشرًا أو ذريعة دائمة في خطابها السياسي، وهذا ليس نتاج صدفة أو فراغ سياسي، بل نتيجة حنكة الدولة الأردنية في إدارة توازناتها بدقة جراحية؛ حيث حافظت على خط دفاعي صلب أمام مشاريع التوريط، دون أن تتورط في مغامرات لا تحتملها الجغرافيا ولا يسمح بها ميزان القوى.
وفي هذا السياق الدقيق، لا بد من التنبه إلى أنَّ مِن أخطر ما يواجهه الوطن في الداخل، أولئك الذين يتجرؤون على اتهام الأردن بالخيانة والطعن في مواقفه الوطنية بعقلية رعناء أو بأجندات مظلمة، وكأنَّهم يغذون حملات الأعداء من الداخل وهم أشد خطرًا على استقرار الدولة من خصومها في الخارج. فهؤلاء، بوعي أو بجهل، يهدمون الثقة الوطنية ويضعفون الجبهة الداخلية، الأمر الذي يستدعي وقفة حازمة ومحاسبة صارمة، حماية لهيبة الدولة وصونًا لوحدتها من العبث المغلف بثوب المعارضة المزيفة.
وفي ضوء هذا كله، تبرز الحاجة إلى وعيٍّ وطنيٍّ حقيقيٍّ يعيد تعريف الانتماء، لا بوصفه ترديدًا لشعارات نمطية، بل كإدراك واعٍ لمكانة الأردن وحدوده وقدراته وتحدياته. الوعي الذي نحتاجه هو وعي يحترم العقل الجمعي، ويستند إلى قراءة معرفية للوقائع، لا إلى عواطف مؤقتة أو اندفاعات غوغائية؛ وعي يدرك أنَّ الوطنية ليست في رفع الصوت وإنَّما في صيانة الاستقرار، وليست في تبني خطاب المظلومية وإنَّما في تطوير مناعة الدولة أمام الابتزازات الإقليمية.
إنَّ بقاء الأردن في منطقته الآمنة نسبيًّا وسط هذا الحريق الإقليمي لم يكن مجانيًّا، بل كان نتاج سياسات تراكمية اعتمدت البراغماتية الواقعية سبيلًا للبقاء؛ لكن الاستمرار في هذا النهج يتطلب الآن عبورًا من مستوى إدارة التوازنات إلى مستوى إنتاج وعي جمعي جديد، يعي أنَّ الاستقرار لا يُشترى مرة واحدة، بل يُنتج كل يوم عبر اليقظة الداخلية وتماسك الجبهة الوطنية الواعية.
فإنَّ ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من الأصوات التي تزايد في الوطنية، بل عقلًا وطنيًّا هادئًا عميقًا، يزن مصالح الأردن بحكمة، ويفهم أنَّ بقاء الدولة لا يتقرر في ساحات الاحتفالات، بل في غرف التفكير الإستراتيجي، وفي عمق إدراك المجتمع لدوره ومسؤوليته أمام نفسه قبل أن يكون أمام الخارج.
لهذا أكرر وأشدد: معركتنا الحقيقية اليوم هي معركة وعي، لا معركة مظاهر. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الوطنية كوظيفة عقلية أخلاقية، تتجاوز المشاعر الآنية إلى بناء إدراك صلب لطبيعة المخاطر والفرص، ولموقع المملكة الأردنية الهاشمية بوصفها دولة تتقاطع فوقها المصالح الكبرى، لكنها تملك من الحكمة والرصانة ما يجعلها قادرة على البقاء ندًّا قويًّا محترمًا في هذا الشرق المضطرب.