نبض البلد - المحامية هبة أبو وردة
تشهد المملكة العربية السعودية، تحولا ملحوظا في الآونة الأخيرة، ناتجا عن تراكم مصادر قوتها، وقدرتها الكبيرة على إدارة التوازنات المتضاربة، مما أتاح لها الفرصة بأن تعيد تموضعها كمركز تفاوضي تتقاطع فيه الأجندات، حيث باتت تعيد ضبط الإيقاع السياسي في الملفات الكبرى التي تتعلق بالأمن، الاستقرار، الاقتصاد والعلاقات الدولية.
في الرياض، نقطة الإرتكاز الإقليمي، انعقدت القمة العربية الإسلامي، لمناقشة واحدة من أعقد القضايا العربية التاريخية، بأساليب تأثير ذكية تنسجم مع أدوات السيطرة الحديثة في العلاقات الدولية، وتتماشى مع التحولات الاستراتيجية، التي بات يدار عبر تكريس النفوذ وبناء التحالفات وخلق توازنات تفرض حلولا واقعية دون تفريط.
سياسة خارجية وازنة، مكنت السعودية من إعادة تقديم القضية الفلسطينية، بالتأطير الذكي لما تبقى من فرص، وتحويلها من ملف استنزاف تاريخي إلى ملف سيادة مدعوم بغطاء عربي ودولي، بمسار تصاعدي محسوب، بدأ بتجميد التعاون الإقتصادي، واستخدامه كورقة ضغط أخلاقية دبلوماسية، وصولا إلى قمة الرياض لتتويج مسارها في صياغة موقف عربي جماعي قادر على التأثير.
قراءة اللحظة السياسية، وتقدير توقيت الفعل وحدوده، هو أمر لا يتعلق بتباين المبادئ، إنما بإختلاف أدوار الدول، وتتنوع المعايير التي تبنى عليها القرارات السيادية، كما أن لغة القمم، تتيح لمن لا يريد أن يحرج يغيب، ومن لا يريد أن يوقع على ما لا يرضاه يمسك عن الحضور، مما يتبدد للعين السياسية ملامح رسالة تحفظ مدروسة، خلف غياب المملكة الأردنية الهاشمية عن القمة.
ارتباط الأردن في القضية الفلسطينية، يجعلها أقرب لأن تكون طرف مباشر فيها، خاصة فيما يتعلق بالوصاية الأردنية على المقدسات في القدس، وملف اللاجئين، أي القضايا التي تمس مباشرة هوية الأردن السيادية، وفي هذا السياق السياسي المعقد، منطق الدبلوماسية متعددة المسارات، يفضل أن يبدأ التفاهم بين الأطراف الأبعد عن النزاع، لتجنب التصادم المبكر في الملفات الحساسة.
خاصة وأن عدم صياغة الاعتراف، بطريقة واضحة وموحدة، تضمن أن القدس الشرقية عاصمة فلسطين، بالسكوت عنها أو الاكتفاء بالإشارة إليها بتعابير مبهمة، يضعف المطالبة المستقبلية بالقدس كعاصمة، مما قد يشرعن الهيمنة عليها، الأمر الذي يهدد بشكل مباشر الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، مما يضع الأردن في أصعب اللحظات السياسية حساسية، بين التمسك بثوابته التاريخي والاضطرار إلى التحرك بهدوء في مشهد إقليمي شديد الحساسية.
كما أن اختزال الاعتراف الأمريكي بدولة فلسطين، في حدود أراضي 1967, سيعيد تعريف النزاع الفلسطيني، أمام العالم من كونه قضية اقتلاع وتهجير إلى مجرد "نزاع سيادة وحدود"، ويدفن النكبة تحت بلاط واشنطن، ويدفن الحق بالعودة تحت بند "النأي عن الصراعات".
من جهة أخرى، يمكن أن يضع "حق العودة" في خانة "تعويض رمزي أو توطين"، بدل أن يبقى حقا قانونيا أصيلا وفق القرار 194 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما ينذر بالخطر الأكبر، بمعنى أوضح أن يتحول اللاجئ من كونه صاحب أرض مسلوبة، إلى "مواطن" دولة مستقرة ويطلب منه أن يطوي ذاكرته عما يتجاوز حدود 1967، ويستبدلها بأوراق رسمية، وجواز مؤقت.
لن يقف ملف اللاجئين عند هذا الحد، إنما سيتمد إلى تراجع مصير اللاجئين، وتتغير موقعهم القانوني من "ضحايا تهجير قسري"، إلى "رعايا دولة مستقرة"، مما يعني إنسحاب منظومة الدعم والحماية الدولية، وعلى رأسها وكالة الأونروا، باعتبار أن الدولة الفلسطينية، أصبحت هي المعنية بشؤون رعاياها.
رغم أنه من الناحية القانونية، حق العودة كونه مكفول بموجب القرار رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة 1948، وفقا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، إلا أن قبول الفلسطينيون أنفسهم بذلك ضمن إتفاق اعتراف رسمي ونهائي يلغي حق العودة، كما أن الواقع السياسي، وهو الأشد فتكا وأعمق أثرا، سيعيد تعريف النزاع أمام العالم، مما قد يعتبر طرح ملف "العودة" عبء تفاوضي.
الأمر الذي يترتب عليه، اقتلاع مشروعة المقاومة لإستعادة باقي الأراضي من جذورها؛ فما كان فعلا مشروعا في القانون الدولي، تحت مسمى "مقاومة الإحتلال"، وتزرع عوضا عنه مفهوم "عمل إرهابي" يهدد استقرار دولة ناشئة، وفي أفضل الظروف قد يعتبر "عدوان بين دولتين".
كما أنه في العمق الرمزي للسياسة، يبدو الاعتراف الأمريكي وكأنه جنازة رسمية للقضية الفلسطينية، فإذا ما كانت مشروطة بمساءلة إسرائيل، وتحميلها كلفة ما هدمته كقوة احتلال، الملقى على عاتقها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة وقواعد لاهاي، فهو أداة لمحو أثر المسؤولية القانونية، ويعيد صياغة "جريمة الحرب"، إلى "ملف إعمار"، من مسؤولية الدولة الفلسطينية، وبذلك يحملها عبء ما لم ترتكبه، ويكافئ إسرائيل باسم "الداعم للسلام".
كما أنه سيحول الحق بالتعويض وجبر الضرر، الملقى على عاتق إسرائيل، بموجب القانون الدولي، وتحديدا ضمن مبادئ مسؤولية الدول عن الأفعال غير المشروعة الصادرة عن لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، والتي تجبر أي دولة ترتكب ضررا يجب أن تلزم بـجبر الضرر، سواء عبر التعويض المالي أو إعادة الحال إلى ما كان عليه، إلى مساعدات إنسانية تنتظرها فلسطين من المجتمع الدولي.
الحساسية الدقيقة في المشهد السياسي، تتطلب سحب البساط من تحت القضية ذاتها، والختم على النكبة بختم "الاستقرار"، وطي صور "مخيمات اللجوء” في أوراق السياسية بلا ذاكرة بلا عدالة بلا عودة، إستجابة لرغبة القيادة الفلسطينية والضمير العربي الجمعي، للوصول إلى حل ينهي العدوان المتصاعد، والمشاهد الدموية اليومية.
تتحرك الدول الداعمة نحو تمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإنهاء الاحتلال، كلا حسب أدواته السياسية وموقعه الجغرافي، منها ما يعكس التمسك بالثوابت، ومنها ما يحقق تفعيل السياسة الواقعية، وبين صمت الحكيم من الأردن والحضور القوي من السعودية، يمكن تحقيق المعادلة دون تفكيك الموقف.