نبض البلد - حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
لطالما كان الطب الوقائي خط الدفاع الأول في حماية صحة الإنسان، إذ يسعى لاكتشاف الأمراض قبل أن تستفحل، والحد من انتشارها قبل أن تتحول إلى أوبئة، وتقليل المخاطر الصحية قبل أن تتحول إلى أزمات مزمنة. ومع تطور التكنولوجيا، برز الذكاء الاصطناعي كأداة ثورية تُعيد تعريف هذا الفرع الحيوي من الطب، مُحوّلًا إياه من ممارسة قائمة على التوصيات العامة إلى ممارسة دقيقة، مخصصة، واستباقية.
في الطب التقليدي، كان الطبيب يعتمد على الفحوصات الدورية والملاحظة السريرية لتحديد عوامل الخطر لدى المريض. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يُقدّم نموذجًا جديدًا كليًا، قائمًا على تحليل البيانات الضخمة (Big Data) واستخدام تقنيات التعلم الآلي (Machine Learning) لاكتشاف الأنماط المخفية التي لا يمكن للعين المجردة أو التحليل اليدوي أن يراها.
تخيّل أن خوارزمية ذكية يمكنها تحليل تاريخك الطبي، ونمط نومك، ومستوى نشاطك البدني، ونظامك الغذائي، وحتى تعبيرات وجهك أو نبرة صوتك، لتخبرك باحتمالية إصابتك بمرض مزمن خلال السنوات الخمس القادمة. هذا ليس خيالًا علميًا، بل واقعًا يتحقق بسرعة في مختبرات الأبحاث وعيادات المستقبل.
الذكاء الاصطناعي يُحوّل الطب الوقائي من التوصيات العامة إلى الطب الشخصي الدقيق. فبدلًا من القول "تناول طعامًا صحيًا وتمرن بانتظام"، يمكن للخوارزمية أن تقول: "جسمك يستجيب بشكل أفضل لنمط غذائي منخفض الكربوهيدرات، وأنت عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم خلال عامين إذا استمر نمط حياتك الحالي". هذه القدرة التنبؤية لا تساهم فقط في تحسين صحة الفرد، بل تُقلل من التكاليف الصحية العامة على مستوى الدول.
في مجال الأمراض المزمنة مثل السكري، وأمراض القلب، والسرطان، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتشف المؤشرات المبكرة للإصابة عبر تحليل بيانات غير تقليدية، مثل التغيرات في أسلوب المشي، أو النوم، أو حتى نشاط المستخدم على الهاتف المحمول. كل هذه الإشارات، إذا ما جُمعت وحُللت بشكل علمي، يمكن أن تشكل "بصمة صحية" تساعد في التنبؤ بالمخاطر الصحية قبل ظهور الأعراض.
من الأمثلة الرائدة أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الجينية لتحديد احتمالية إصابة الأفراد بأمراض وراثية. هذا يفتح المجال لتدخلات وقائية منذ سن مبكرة، بل وقبل ظهور أي علامات سريرية، مما يعزز من فعالية الوقاية، ويمنح الأطباء القدرة على تصميم خطط صحية مخصصة.
ولا يقتصر الذكاء الاصطناعي على الأفراد، بل يشمل المجتمعات بأكملها. فبفضل أدوات التحليل الجغرافي والزماني، يمكن للخوارزميات رصد تفشي الأمراض في مناطق معينة، وتحديد العوامل البيئية أو السلوكية المرتبطة بها، مما يسمح للجهات الصحية بالتدخل السريع، وتوجيه الموارد بشكل ذكي، بدلًا من الاستجابة العشوائية بعد فوات الأوان.
لكن كما هو الحال في كل ثورة تكنولوجية، هناك تحديات يجب التعامل معها. أمن البيانات الصحية يمثل تحديًا رئيسيًا، خاصة أن الذكاء الاصطناعي يتطلب الوصول إلى معلومات شخصية دقيقة وحساسة. كما أن هناك خطرًا حقيقيًا من التحيّز الخوارزمي، إذا لم تُدرّب النماذج على بيانات شاملة تمثل جميع الفئات السكانية، فقد تؤدي التوصيات إلى تعزيز التمييز أو إغفال فئات محددة.
كما أن الفجوة الرقمية قد تحرم شريحة كبيرة من الناس من الاستفادة من هذه التقنيات الوقائية المتقدمة. إذا لم يتم تعميم استخدام الذكاء الاصطناعي وتوفير الوصول العادل له، فقد تتسع الفجوة الصحية بين من يملك التكنولوجيا ومن لا يملكها، وهو أمر يتناقض مع جوهر فلسفة الطب الوقائي.
في السياق العربي، يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة استراتيجية لتعزيز الطب الوقائي في ظل التحديات الصحية والاقتصادية التي تواجهها المنطقة. يمكن للدول العربية الاستثمار في بناء قواعد بيانات صحية موحدة وآمنة، وتدريب كوادر طبية وتقنية للعمل على تطوير أنظمة تنبؤية محلية تُراعي الخصوصية الثقافية والبيئية، وتُعزز من كفاءة النظام الصحي الشامل.
في نهاية المطاف، الذكاء الاصطناعي لا يأتي ليحل محل الطبيب أو المتخصص في الصحة العامة، بل ليكون أداة تمكينية تعزز من قدرتهما على اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة. هو شريك رقمي يُترجم البيانات إلى رؤى، ويحول الخطر الكامن إلى فرصة للنجاة. إن التحدي الصحي الأكبر لم يعد فقط في علاج المرض، بل في منع حدوثه قبل أن يبدأ. ومع الذكاء الاصطناعي، يمكن للطب الوقائي أن يتحول من أمل نظري إلى واقع ملموس، نعيش نتائجه كل يوم، في مجتمع أكثر وعيًا، وصحة، واستدامة.