فرصة سانحة قد لا تتكرر.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

للدولة الأردنية طريقة خاصة في التعامل مع الأزمات، وجوهر هذه الطريقة هو التصرُّف بعقل بارد لا يفكر مطلقًا بالقفزات الطويلة، فإذا تأمل أي سياسي عاقل ديناميكية المنطقة سيدرك أن الحسابات الدقيقة والتعامل الرصين مع أي أزمة هو الحل الأسلم.

خلال عقود من الشد والرخي، استغلت جماعة الإخوان المسلمين سمة الرصانة في السياسة الأردنية، وكانت وما زالت تلعب في مساحة الرحمة التي انتهجها الهاشميون منذ تأسيس الأردن الحديث، ولا أنكر هنا أن الدولة استعانت في الكثير من المنعطفات والمواجهات بهذا التنظيم خصوصًا في مواجهة المد الشيوعي وفي توفير الظهير الشعبي للحركة الدبلوماسية في القضية الفلسطينية بالذات، وذلك كله لأن الدولة كانت تعاني ببساطة من عدم وجود قوى وطنية "منظمة" قادرة على إسناد حالة التصدي التي نما الأردن على وقع أحداثها منذ الخمسينيات.

تشير التجارب التاريخية إلى أن هذا التنظيم يمتاز بسرعة الشعور بالغلَبة على أي نظام سياسي يهادنه، وهذه الميزة (النقمة بالأصح) أودت به إلى وضع ترونه في مصر وتونس والسودان وغيرها، والمشكلة أن عملية النقد الذاتي والمراجعة ليست موجودة في قاموس التنظيم، بل أن النقد ذاب في استعلائها واختفى في غرورها التنظيمي، فأصبحنا نرى الاعتراف بالخطأ من قبل قياداته أمر صعب بالمطلق.

التنظيم بُنيَ على فكرة الدعوة في البداية، وعندما تأكدت قيادته أن مردود العمل الدعوي مُجدي ولا يحتاج إلى الكثير من الشرح والتوضيح للمتلقي، اتخذت القرار بالتحول إلى العمل السياسي في مصر مطلع القرن المنصرم، ومن هنا بدأت التصادمات مع الأنظمة السياسية العربية، وبدأت لعبة التقافز من قبل هذا التنطيم بين هويتين: هوية الجماعة الدعوية وهوية الجماعة السياسية.

في الأردن استطاعت الجماعة تثبيت جسمين تنظيميين، الأول هو جماعة الإخوان المسلمين، والثاني هو حزب جبهة العمل الإسلامي، من خلال هذين الجسمين مارست الجماعة براعة مذهلة في التقافز بين الهوية الدعوية والهوية السياسية فحصلت على مكاسب كبيرة، ولم أستغرب تصريحات أحد قياداتها بعد كشف مخطط تصنيع الأسلحة والصواريخ على الأرض الأردنية التي وصف جماعته فيها قائلًا: نحن جماعة دعوية مُسالمة. هذا التقافز منح الجماعة مساحة شاسعة للمناورة أمام عقل عام منفعل بالعاطفة الدينية ومكسور إزاء ما يحدث في فلسطين.

وجود جسم يستخدم العاطفة الدينية في الدعوة في رفد جسم سياسي يستخدم الانتخابات في الوصول للسلطة هو أساس هذه القوة الشعبية التي يتمتع بها التنظيم. التنظيم لم يقدم خطة واحدة عملية لحل المشاكل في الدول التي ينشط بها، بل أنه فشل في إدارة دول سيطر عليها كليًا بعد اندلاع ما يسمى بالربيع العربي، القصد هنا أن أبين عدم عدالة التنافس بين التنظيم وحزبه من جهة والتيارات السياسية الأخرى، فهيكل التنظيم (الجماعة والحزب) يحوله إلى ما هو أكبر من مجرد حزب سياسي، وهذا ما رأيناه في الانتخابات الأخيرة في الأردن، حيث حصل الإخوان على أكثرية في البرلمان دون طرح تفصيل واحد لأي خطة لإدارة الملفات العامة.

الجماعة في الأردن كيان غير مرخص كما قالت الدولة الأردنية على لسان الناطق باسمها بعيد كشف مخططات التجنيد وتصنيع الأسلحة في 15 نيسان. بالتالي فالوضع القانوني محسوم ولا يحتاج لجدال، ولكن المعضلة تكمن في ذراعها السياسي وهو الحزب.


الدولة اليوم لديها زخم شعبي منقلب عن استياء مما اقترفته الجماعة، وهذا الزخم لن يتكرر بسهولة، والفرصة سانحة لتحجيمها من قبل الدولة، قبل أن تعود وتستعيد شعبيتها غير المكلفة مرة أخرى، ولا أدعو هنا إلا لتطبيق القانون وتظهير المصلحة العامة، لأن ردة فعل الجماعة على المخططات الإجرامية كانت باهتة وتنم عن عدم امتثال لمصلحة الأردن وتؤكد أن عقل الجماعة يعطي أولوية للتنظيم دون أن تعنيه مصلحة الأردن. القصد هنا أن مشكلة الجماعة تركيبية وليست سلوكية كما يعتقد البعض، لذلك فمن الأفضل أن تستغل الدولة هذا المناخ لاجتياز مرحلة مهمة في مسيرة الإصلاح السياسي؛ فلن يكون هناك إصلاح في ظل عدم العدالة في التنافسية بين الجماعة وحزبها (التنظيم) من جهة والأحزاب الجديدة التي نشأت مؤخرًا في الأردن.

وجود هذا الجسم المتغلل في المجتمع الأردني دون وجه فكر، يعني أن تستمر عملية تخريب وشحن العقل الجمعي في الأردن، ويعني أن القادم قد يكون مواجهة صعبة ومكلفة، فهذا التنظيم لم يتوانَ عن التعاون مع مشاريع خارجية كالمشروع الأمريكي التركي المسمى بالربيع العربي، والمشروع الإيراني المسمى وحدة ساحات المقاومة.

صحيح أن الأمور معقدة وليست بهذه البساطة، فهناك أعضاء من حزب جبهة العمل الإسلامي موجودون في مجلس النواب عن طريق قائمة حزبية، وحل الحزب قد يؤثر على مسيرة الإصلاح السياسي التي اعتمدت بشكل كبير على قانون انتخاب تزداد فيه حصة القوائم الحزبية العامة على مدى دورتين انتخابيتين قادمتين. لكن هذا كله غير مهم أمام مكسب تنقية الخطاب الموجه للناس، واستعادة الرأي العام المخطوف، وأخيرًا الوصول إلى مضمار سياسي عادل تتنافس فيه القوى السياسية والأحزاب دون أن يجور طرف على آخر بدعم من تنظيم دعوي يستغل العاطفة ومناطق عدم الدراية السياسية في المجتمع.

أخيرًا، فإن النزال مع التنظيم لن ينتهي بتحجيمه الإجرائي من قبل الدولة، لأن المعركة فكرية أيضًا وتحتاج للسيطرة على عملية التنشئة والاتصال بشكل مُحكم. ولا أنسى ذلك التصريح المغرور لأحد قيادات الجماعة بعد إقرار حلها ووصفها بغير المرخصة من قبل المحكمة عندما قال: نحن لدينا ترخيص شعبي، وكم في ذلك التصريح من دلالات خطيرة تفيد بأن التنظيم يرى نفسه أكبر من الدولة طالما أنه يستطيع سرقة العقول كلما أراد.