ابراهيم ابو حويله

الشح ...

نبض البلد -
بين الشح المالي والشح الأخلاقي والشح الفكري، يظهر اثر الشح على الأمة واخلاقها وعلى إنسانها وحضارتها .

{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9)

كم هي تلك الصور الحياتية التي تطلقها تلك الآية في ذهنك، ولنكن صريحين مع انفسنا ولو قليلا، كم هي تلك الحقائق التي أنكرناها ووقفنا ضدها لشح في أنفسنا، كم هي تلك المواقف التي كان من الممكن فيها أن ننصر الحق.. أن ننصر المظلوم.. أن نعلن أن الحقيقة هي في الطرف الأخر.. لكن الشح منعنا، وشح المشاعر هو أشد وقعا من الشح المالي، كيف أعترف له بالفضل، كيف أقرّ له بالدرجة، كيف أقرّ له بأنه الصواب وأنا المخطىء، يقول ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية إن الشح هو البخل مع الحرص، وهو غريزة تدفع الإنسان إلى الأنانية والتمسك الشديد بالمال وعدم بذله في أوجه الخير، أما الطبري، فيفسر "الشح" بأنه أشد البخل، والوقاية منه تعني التحرر من حب المال الزائد والأنانية. ويرى أن المعنى هو أن من استطاع أن يتحكم في رغبته الشديدة للمال والممتلكات ولم يجعله عقبة في طريق البذل والعطاء، فهو من الفائزين برضا الله وجنته، كما أورد في تفسيره روايات عن الصحابة والتابعين تؤكد أن المقصود بـ"يوقَ شحَّ نفسه" هو من تمكن من قهر نفسه عن الطمع والجشع والبخل، ووصل إلى درجة الإيثار والكرم، وهو ما جعله من المفلحين.

نعم الشح بالمال هو شح مذموم على كل الأصعدة، ويؤدي إلى تفكك المجتمعات وإنهيارها، ولذلك حث الله جلّ في علاه على الأنفاق والبذل، وعدم نهر صاحب الحاجة عن السؤال، لما قد يقع هنا من دخول تلك الفئة المحتاجة في فئة من تم نهرهم، فقدم الله حاجة المحتاج وحقه في السؤال، على تستر المتنفع من الحاجة بالسؤال، لوقوع المنفعة للطرفين، وتحقق تلبية حاجة المحتاج، يا الله ما أوسع رحمتك، الخشية على المحتاج سبب في تقبل سؤال غير المحتاج، وترك حسابه على الله. 

وهنا يقفز إلى ذهني مباشرة تلك الصورة التي كان يسعى إليها مالك بن نبي من أن الإنانية ليست أنانية المال فقط، بل هو أنانية الإنسان التي تدفعه إلى تقديم مصلحته الشخصية على حساب الآخرين. ورأى أن التغلب على الشح هو مفتاح الإصلاح الاجتماعي، لأن المجتمعات تتطور بالعطاء والتعاون، لا بالأنانية والتنافس غير الشريف. شح المشاعر والحسد والتنافس والمشاحنة والبغضاء، ومن ثم تقبل أو عدم تقبل الأخر، في كتابه "في ظلال القرآن"، تناول قطب هذه الآية في سياق التربية الإيمانية، مشيرًا إلى أن الشح هو أحد مظاهر ضعف النفس البشرية، وأن الذين ينجحون في مقاومة هذا الضعف هم الذين يرتقون في مراتب الإيمان. كما أكد أن هذه الصفة ليست مادية فقط، بل تشمل الأنانية في كل شيء، حتى في المشاعر والمواقف، فمن يتجاوزها يكون من "المفلحين" الذين يدركون السعادة الحقيقية. بينما كان يخشى الكواكبي أن يصل الشح إلى الإنظمة والمجتمعات، بل يذهب طارق سويدان إلى النظام العالمي الذي أصابه الشح في كل مفاصله، وهنا أقول هل ترمب إلا صورة من أبلغ صور الشح العالمي. 

هل العناد والإصرار على الرأي مع ظهور الصواب في الرأي الأخر صورة من صور الشح التي تؤدي إلى دمار المجتمعات وتمنع الفلاح عن الأمة، هل إلى هذه الدرجة يؤثر الموقف على الأمة، ولماذا يقف الإنسان متصلبا في موقفه إذا كان يريد مصلحة عامة أو مصحلة الأمة أو يسعى للحق، هل ننخرط جميعا في مثل هذا الموقف دون إدراك حقيقي منّا لما نقوم به، وأثره على المجتمعات، تجتمع الأكثرية على باطل، وقد تريد فئة ما الشرّ بالأخرين، وقد تسعى بصورة ما وراء مكسب مادي أو جهوي، وهي تدرك أثر هذا الموقف على الوطن، ولكن هل نستطيع ان نحرر مجموعة ما من هذه المشاعر السلبية، ودفعها للأنخراط في المصالح العامة أو المصالح المرسلة، وتقف حتى ضد رغباتها في سبيل تحقيق ذلك، هنا نكون قد إستطعنا أن نصنع تلك الفئة التي تحقق التغيير، وغيرت بالفعل ما بأنفسها سعيا منها لتغير واقعها. 

واقول لنفسي ضع رغباتك ومواقفك في إمتحان مستمر، فالشح مطاع والهوى متبع وكل صاحب رأي معجب برأيه. نسأل الله السلامة ..

أبراهيم ابو حويله ..