الدكتوره ناديه حلمي

الخروج من الوطن

نبض البلد -
أصدقائى الأعزاء

عندما قررت الخروج يوماً من وطنى، كنت أظن أننى ربنا سأعود إليه بعد أيام أو أسابيع أو قل ربما بعد شهور... لم أتوقع غيابى عنه كل تلك السنين، كان أكثر ما يدهشنى ويبكينى فى الوقت ذاته هو أننى قد نسيت أن آخذ معى فى غربتى صور أحبتى ومدرستى القديمة وشوارع مدينتنا، نسيت أن أصطحب معى فى غربتى تلك الصور لبيتنا القديم متهالك الجدران المحاط بالأرض والعرض فى مدينتنا الريفية الصغيرة، كنت أظن قبل خروجى من الوطن أنه ربما كان هذا البيت هو آخر ما تبقى لى على أرض هذا الوطن... وبصراحة أخاف أن أنسى مع مرور الوقت فى غربتى ملامح وجه بيتى وجدرانه وأحبتى، فكتبت إليهم فجأة تلك الكلمات... لأننى أحبهم... وأشتاق إليهم... وأحب أن... لن أكمل لقد غلبنى الدمع... على كلٍ لا أعرف لماذا كتبت ولا لمن تحديداً كتبت؟... كل ذلك لا يهم... المهم أنى إستعدت ذاتى وقدرتى مرة أخرى على الكتابة وكتبت. وإليكم نص كلماتى اليوم:


كان أول ما إستمعت إليه عندما إندلعت تلك الحرب هو بيانات لدول كبرى تُصرّح أنه (من غير المقبول) إستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وتشريد الأهالى وتهجير الأطفال الرضع والقصر!.... إلخ إلخ هذه التصريحات، وقتها إنتبهت حقاً لعبارة "من غير المقبول"... هذه جملة صراحةً يخجل أحدنا أن يقولها لإبنه إذا رمى ورقةً فى الطريق، إذ يحسبها قليلة ولا تتناسب مع فداحة الفعل الذى هو رمى ورقة!... هذه الجملة تستخدمها الآن دول كبرى تملك حقّ النّقض الفيتو لتمنع إدانة الفعل الذى تقول عنه أنه غير مقبول!... فمن هو ذا المقبول؟!


ما هى أهم ملامح العنصرية والتنمر والفوضى التى تعانين منها حقاً فى محيط عملك ومجتمعك؟... ربما كان واحداً من أعمق تلك الأسئلة التى وُجِهَت لى، وكان فعلاً أكثر ما يحزننى على المستوى الشخصى هو نظرات التشكيك والفحص والإستنكار والنظر بعين الريبة لكل ما يصدر منى - حتى ولو كان بغير قصد - تجاه الغير والذى قد يصل أحياناً حد التعيير والفرح بالهزيمة والشماتة عند الإنكسار... وتلك هى ليست شكوتى وحدى


كيف أستطعتِ أن تجمعى بين السياسة والأدب فى آنٍ واحد؟... أنا سياسية أجمع شتاتى من الرواية والسرد، لكننى فى بعض الأحيان أجد نفسى صدقينى مرغمة على السمع لأنه لا أحد سيسمع لى غيرى وغير نفسى


ماذا تعلمتِ أيتها الفتاة من أمك؟... وبلا تردد أجبت تعلمت فى المطبخ من أمى كيف أكتب على نار هادئة خافتة، تعلمت منها أيضاً كيف يمكن أن أمارس هواية الكتابة من غير أوراق ولا أقلام، فربما يا سيدى باقة وحزمة من الخضار الطازجة، ومعها بعض توابل حارة كفيلة بكتابة أروع قصيدة وأعمق رواية وتسطير أعظم قصة حب


عندما طلبت من محدثى التمهل مثلى عند إتيان فعل الكتابة... صرخ فىّ متحمساً وقال: أنتِ عليكِ أن تفكرين كثيراً قبل أن تكتبين لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبين، أما أنا فقلة من ينتظرون ما أكتبه... فرقٌ كبير يا سيدتى ما بيننا نحن الإثنين


لماذا يحاولون قتلك يا سيدتى؟... ربما أرادوا أن يقتلوننى لأنهم وجدوا أننى متجذرة فى الحياة أكثر منهم، وهم فى حقيقة الأمر لم يقتلوننى ولكنهم أراحوا جسدى المنهك الضعيف، ومنحونى تلك الحياة الأبدية التى حُرِمُوا هم منها


كان من أعظم ما قرأت فى الفترة الأخيرة هى عبارة أكاديمى فرنسى للرئيس ماكرون، حين توجه له بالحديث قائلاً : كن رئيساً أديباً... وأنا شخصياً قد إندهشت من الصدى الذى أحدثته تلك العبارة بداخلى، إلا أننى إعترضت عليها فى نهاية المطاف (ربما) خوفاً على الرئيس ماكرون ذاته، فالأدب شأنه شأن القصيدة قد تجنى على صاحبها وهى التى تحمل ألحانه وأشجانه، عواطفه وإنسانيته وبعضاً من أحلامه


ماذا تعنى الكتابة بالنسبة لك؟... وبعد تفكير عميق أدركت أن الكتابة هى جزأى المَبتُور ولربّما كُلَّى فى لحظَة مَا! فأنا كلّمَا كتبت أكثر كلّما شَعرت بأنّنى أفقِد جُزء منى، وكلما تعمقت أكثر فإننى أعرّى نفسَىى كى يَرانى النّاسُ من الدّاخل، وهنا أدرك على الفور أنها (ربما) لحَظاتُ مخاضٍ لميلادِ نصٍّ جديد


متى يبدأ الإلهام فى فعل الكتابة أو القصيدة؟... سؤال رغم غرابته، إلا أننى تذكرت أن الأمر يشبه حالتى عندما أتحوّل خلالهَا من حَالتِى الطَبيعيّة إلى إنسانة أخرى لا أعرفها ولا حقاً هى تعرفنى، غامِضة ، إنطِوائية، غريبة أطوَار، شخصية لا تُطاق، إنفَصَلت عن العَالم الواقعى لأنغمِسَ فى عَالمٍ من الخَيَال، ومن هنا حيثُ يبدأ الإلهَام


هل الكتابة تعنى لديك الهروب من الواقع؟... وأنا شخصياً قد إعتبرت أن الكتابة ربما تصبِح هروباً لدى البعض - وأعتقد أننى والغالبية من هذا النوع - يواجهُون ويهربون به من عَالمِهم الخاص الذى إنفَلت مِن بينِ أيدِيهِم، وقد تصبح الكتابة أيضاً طوق نجاة لدى من يبحَثون بِها عن شُهرة تشفى غَليلهم ورغْبتهِم فى وضع بصمَتهم فى الحَياة


هل للكتابة المتمكنة علاقة بالسلطة؟... سيدى، إن الفكرة المتألقة لا تتوسل بل تخترق، إذ معها جيشها الكافى لفرض السلطة... وهذا هو سر الإبداع


لماذا لا تظهرين أمام الناس أنكِ تتعبين؟... ورغم مفاجأة السؤال ذاته لى، إلا أننى أجبت بأنه لم يكن أمامى أى خيار لأن أتعب.. . التعب أمام الموت ترف لا يمكن التفكير به


لماذا بكيتِ عندما هربتِ؟... حتى اللحظة لا أدرى لماذا بكيت؟ أهو فرحاً بالنجاة من هذا الوطن... أم حزناً لهجر موطنى... أو خوفاً بألا أعود إليه يوماً ما... المهم أننى بكيت... لا أعتقد أن الوقت كان مناسباً لفرز سبب البكاء... البكاء ليس خياراً أيضاً


ما أول ما تذكرتِ فى غربتك؟... بكيت بشدة لأننى قد أدركت حينها أننى كم أشتاق لصورة أمى وأبى التى على الجدار... وأردت الكتابة يوماً إلى إخوتى ونسيت... لأسألهم أما زالت الصورة موجودة هناك؟ أما زال الجدار واقفاً مكانه؟ أما زالت دارنا تحمل ملامح دارنا؟ هل الناس تغيرت ورحلت أم الناس الآن غير الناس؟


ما الذى تغير الآن بداخلك بعد إنتهاء تلك الحرب، هل صرتِ إنسانة أخرى غير ما عرفناك؟، هل ما زلتِ تمتلكين تلك الروح الثرية؟... سكت للحظة ونظرت فى مرآة عينى متفحصة، ثم إعتدلت فجأة كأننى تذكرت شيئاً ، وأجبت ببكاء: أنا التى لا تمل من القراءة عن المجازر والحروب والتعذيب فى المعتقلات والسجون وكل ملفات حقوق الإنسان الأخرى والحيوان وخلافه، أجدنى الآن لا أقوى على النظر لصورة من تلك الصور التى توثق لبشاعة تلك الحرب


عندما سألت جدتى عن تلك الحرب التى غيبتنا وأبعدتنا، لم أجد عبارة أكثر وأشد بلاغة وحكمة من: جدك كان لا يخاف الحرب بل كان يفهمها..


وأخيراً ، أقول لكم بعد إنتهاء الحرب التى هى سبب غربتى وحزنى إنّ موسى عليه السّلام لما عصاه بنو إسرائيل قال لربه مناجياً: "ربّ إنى لا أملكُ إلا نفسى وأخى"... ونحن نقول: ربنا إننا لا نملكُ الآن إلا هواتفنا المحمولة وحساباتنا على الفيس بوك!... وكانت تلك المعطيات وحدها كفيلة بإشعال الثورة فى أوطاننا... وربما كانت هى سلاحنا الوحيد لسنوات أخرى قادمة لإنارة شمس الحرية فى أوطاننا