نبض البلد - حاتم النعيمات
منذ اللحظة التي أمر فيها فلاديمير بوتين "قواته" بالتحرك نحو أوكرانيا في شباط عام 2022، والعالم يعيش على إيقاع اضطراب متواصل، إذ تعدى أثر الحرب على أوكرانيا الأهداف المعلنة (إبعاد الناتو، واستعادة أراضي روسيا التاريخية) إلى تغيرات استراتيجية في الكثير من مناطق العالم.
الحرب الأوكرانية لم تكن حربًا عادية، بل اختبارًا لمعادلات القوة والتوازن بين واشنطن وموسكو، وإذا نظرنا إلى نتائجها من زاوية الربح والخسارة، سنجد أن الشرق الأوسط كان أحد أكثر المتأثرين بها (أكثر من أوروبا ذاتها)، فإيران وإسرائيل وجدتا نفسيهما في مواجهة غير مباشرة، كلٌّ يخوض معركته بيد وكلائه قبل حرب الـ 12 يوم. ومع أن تفاصيل الصراع بدت معقدة، إلا أن أهم نتائجها كانت واضحة وتتمثل في: أولًا، زيادة توريد السلاح الأمريكي إلى تل أبيب على حساب دعم أوكرانيا، وثانيًا، سعي طهران لتحسين ظروف تفاوضها مع الغرب في الملف النووي والعقوبات من خلال الضغط على إسرائيل باستخدام أجساد أبناء المنطقة.
أثبتت التجارب تاريخيًا - لا سيما في مثل أزمة الصواريخ الكوبية- أن العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا محكومة بقاعدة ثابتة وهي ألا مواجهة مباشرة مهما بلغت التوترات؛ فكل منهما يعرف أن الاشتباك المفتوح يعني كارثة على الجميع، ولهذا يختار الطرفان إدارة خلافاتهما عبر حروبٍ بالوكالة أو عبر دول من الصف الثاني. ومن هنا يمكن فهم أن أي تقارب أو انسجام بين موسكو وواشنطن لا يقتصر أثره عليهما، بل ينعكس على كامل المشهد الدولي.
صحيح أن القمة التي جمعت بوتين وترامب في ألاسكا لم تنتج شيئًا عمليًا، لكنها بلا شك خطوة إلى الأمام على طريق تخفيض الضغط على التي تعتبر ملعبًا نشطًا لهذه القوى، فترامب الذي بنى حملته الانتخابية على شعار "إنهاء الحروب”، يبدو أكثر استعدادًا لتفاهم مع الروس من أي رئيس أمريكي آخر، والروس بدورهم لا يخفون ارتياحهم لعودته المحتملة إلى البيت الأبيض، إذ يعتبرونه شريكًا براغماتيًا يمكن التفاهم معه بعيدًا عن خطاب الأيديولوجيا الذي ساد في عهد بايدن.
انسجام القوتين العظميين، ولو مرحليًا، قد يفتح الباب أمام تهدئة في مناطق النزاع الساخنة، لكنّه في الوقت نفسه قد يخلق فراغات خطيرة في مناطق أخرى، إذ لا شيء في عالم السياسة يحدث مجانًا؛ فالتجربة علمتنا أن كل هدنة بين الكبار يدفع ثمنها الصغار بالتنازلات، وأن الحروب التي تُشعل لتحقيق توازنات دولية تنتهي دائمًا على حساب الأضعف.
وكامتداد لهذه الحالة تبدو منطقتنا -التي دفعت لعقود ثمن صراعات الآخرين- أكثر وعيًا بهذه المعادلة، والأردن على وجه الخصوص يمتلك اليوم فرصة نادرة للمناورة بين أوروبا والولايات المتحدة وروسيا؛ فالقارة العجوز بدأت تتمرّد على وصاية واشنطن، خصوصًا بعد أن تبيّن لها أن إدارة بايدن ورّطتها في عداء "غير محسوب" مع روسيا أضرّ بمصالحها الاقتصادية فيما أسميه "سوء ائتمانية السياسة الخارجية الأمريكية". فرنسا وألمانيا تقودان اليوم توجّهًا جديدًا نحو استقلال القرار الأوروبي، بينما يتعامل ترامب مع أوروبا من منطلق اقتصادي صلف، ما يجعلها تبحث عن حلفاء إقليميين أكثر توازنًا، وهنا يبرز الدور الأردني كدولة مستقرة تمتلك شبكة علاقات دبلوماسية مرنة وقدرة على التواصل مع مختلف الأطراف.
إن التوافق الروسي الأمريكي – إن تحقق – قد ينعكس إيجابًا على المنطقة ويمنحها متنفسًا من صراعات الوكلاء، أما في حال تعثره فسيكون من مصلحة الأردن أن يعمّق تحالفه مع أوروبا التي تبحث عن مخرجٍ مستقلٍ عن هذا الوضع، فملفات فلسطين وسوريا والعراق كلها ترتبط عضوياً بتوازن العلاقة بين موسكو وواشنطن، طالما بقيت إيران وإسرائيل تمثلان الذراعين الإقليميتين لكلٍّ منهما، لذلك لا بد من تعزيز حالة وضع مصالح واشنطن بالجملة مع دول المنطقة مقابل مصالحها مع إسرائيل.
في النهاية، يبدو أن العالم يقف اليوم أمام منعطف جديد، عنوانه "هدوء ما بعد العاصفة”، لكنه هدوءٌ لا يخلو من القلق خصوصًا أن طاقة وضع المنطقة ما زالت مرتفعة، فحين تتصالح القوى الكبرى، تتغير خرائط المصالح، وتُرسم على حساب الآخرين حدودٌ جديدة لا تقل قسوة عن الحروب نفسها.