الدكتور فيصل الحياري
رئيس اللجنة الإدارية والمالية – مجلس أمناء جامعة البلقاء التطبيقية السابق
في ذاكرة الوطن، محطات لا يصنعها الزمن بل يصنعها الرجال. رجال امتلكوا من البصيرة ما يجعلهم يرون أبعد من حدود مواقعهم، ومن الشجاعة ما يمكّنهم من أن يضعوا الوطن في مقدمة كل حساب. في تاريخ التعليم العالي الأردني، كانت هناك مدرسة قيادية مهيبة خرجت من رحم الرؤية الملكية ومن ضمير الدولة ذاتها. مدرسة عبدالسلام المجالي، ومحمد البخيت، وعوض خليفات، وفوزي غرايبة، ووليد المعاني، وغيرهم، ومن سار على نهجهم من أولئك الذين رأوا في الجامعة فكرة تتجاوز جدرانها إلى أن تكون ضمير الأمة وعقلها المفكر.
أولئك الرجال لم يتعاملوا مع الجامعة كمؤسسة تمنح الشهادات، بل كمنبر لإنتاج الوعي وصناعة النخبة، وكركيزة في بناء الدولة المدنية الحديثة. لم تكن الجامعة عندهم امتدادًا للبيروقراطية، بل ميدانًا للاجتهاد والتنوير، ومختبرًا لقيادة وطنية تصهر الفكر بالعمل.
ذلك الجيل آمن بأن الجامعة هي مرآة الدولة، فإن صلحت الجامعة صلح الفكر، وإن اضطربت اضطرب الضمير العام.
لكن مع تبدّل الأزمنة وضغط الأزمات الاقتصادية وتراجع سلطة الفكر أمام سلطة المال والنفوذ، بدأت تلك الفكرة النبيلة تتراجع في بعض المؤسسات، وتبدّلت أدوات القيادة وتحدّياتها، وغلبت البيروقراطية على روح المبادرة، وتراجعت فكرة الجامعة كمشروع وطني جامع، وتراخت معايير الكفاءة أمام حسابات الولاء والمحاباة، حتى غدت بعض الجامعات تردد أمجادها الماضية بدل أن تصنع مجدها الحاضر.
ومع ذلك، بقي في هذا الوطن رجال يؤمنون أن الجامعة لا تموت، وأن الفكر إذا أُغلقت دونه الأبواب وجد طريقه من النوافذ. ومن بين هؤلاء برزت قيادة أكاديمية استثنائية، آمنت أن الجامعة ليست ضحية للواقع بل صانعة له، وأن الإصلاح ليس خيارًا إداريًا بل واجب وطني، ومن هذه القيادات، كان رئيس جامعة البلقاء التطبيقية آنذاك الدكتور عبد الله سرور الزعبي، وهو من الذين آمنوا بأن الجامعة لا بدّ أن تبقى عقل الدولة وقلبها النابض، لا تابعًا لأي جهة كانت.
حين التقيت لأول مرة بالدكتور عبد الله الزعبي، رئيس جامعة البلقاء التطبيقية في عام 2016، مع ما يقارب 100 شخصية من محافظة البلقاء وتحت رعاية معالي المرحوم مروان الحمود، كان المشهد العام غير مريح، فالجامعة مثقلة بالديون والأزمات (عجز وديون والتزامات تجاوزت 65 مليون دينار)، وتراجع في السمعة الأكاديمية والإدارية. لكن الرجل لم يتحدث عن الأزمات، بل عن الفرص. لم يكن يرى في العجز المالي نهاية، بل بداية لإعادة التأسيس. كان صريحًا إلى حد الصدمة، وجريئًا إلى حد التحدي، وصبورًا إلى حد الإيمان. مؤمنًا بأن الإنقاذ لا يكون بالترقيع، بل بالتحول الهيكلي الشامل. فبدأ بإصلاحٍ مستند إلى الشفافية وسيادة القانون والحوكمة المؤسسية، شمل تطوير البرامج الأكاديمية وربطها بسوق العمل، وإعادة بناء الإدارة المالية والإدارية، ووضع التعليم التقني في قلب فلسفة الجامعة بوصفه ركيزة الاقتصاد الحديث.
شاءت الاقدار ان اتشرف بالانضمام الى مجلس أمناء الجامعة، واترأس اللجنة المالية والإدارية، ومن خلال خبراتي التراكمية في الشؤون المالية والادارية (عندما كنت مستشاراً لوزير المالية، ومشاركتي في مجالس الحاكمية في بعض الجامعات الخاصة)، والخبرة الإدارية التراكمية وصولاً الى موقع مدير عام مؤسسة تنمية أموال الايتام، وعند اطلاعي على الخطة الاستراتيجية للجامعة، أدركت أنني أمام مشروع إصلاحي حقيقي، لا يطلب إعفاءً من المسؤولية بل تفويضًا بالعمل، وقد تجلى ذلك عندما قال لنا في مجلس الامناء "الجامعة التي تُدار بالعاطفة تضيع، والتي تُدار بالخوف تنتهي، أما التي تُدار بالعقل فهي التي تصنع المستقبل".
ومن هنا تبدأ شهادتي من قلب مجلس الأمناء، وهي تجربة أعتز بها، واسجلها للتاريخ، لأنني كنت شاهدًا وشريكًا في مرحلة استثنائية من تاريخ الجامعة، حيث وجدنا رئيساً يقود تحولًا جذريًا في الفكر والممارسة.
ناقش مجلس الأمناء الخطة الإصلاحية المعروضة عليه، وبعد موافقته، بدأ الإصلاح الهيكلي الشامل، البرامج الأكاديمية والحوكمة الإدارية، والإدارة المالية، وأعيد الاعتبار للتعليم التقني بوصفه ركيزة الاقتصاد الحديث. في تلك الفترة، أصبحت الجامعة بمثابة معركة مع قوى الشد العكسي، وورشة بناء في آنٍ واحد، منطلقة من فلسفة عميقة بان الجامعة مصنعًا للعقول القادرة على بناء الدولة.
ومن هذا الموقع، عايشت تجربةً مدهشة في تفاصيلها، قوامها أن الجامعة ليست مبنىً من حجر، بل عقلٌ منتجٌ. لم تكن تلك المرحلة سهلة، لكنها كانت صادقة في اهدافها ومبنية على فكر إداري إصلاحي نادر.
ومن هنا بدأنا نشعر في مجلس الأمناء بان إدارة الجامعة تقود مرحلة تحول كبرى وشاملة، تعيد تعريف مفهوم الجامعة التطبيقية، لا كمصطلح أكاديمي بل كمفهوم تنموي وطني.
لم نمتلك في مجالس الحاكمية عصًا سحرية، لكننا وجدنا فريقاً بقيادة رئيس، امتلك أدوات القيادة الحديثة القائمة على سيادة القانون، والشفافية، والمسؤولية المؤسسية، رافضاً التدخلات، وفرض مبدأ أن الجامعة تُدار من داخل أسوارها، ومن مجالس الحاكمية فيها، لا من خارجها، وأن القرار الأكاديمي يجب أن يبقى سياديًا، محصنًا من النفوذ والمصالح، فأعاد للجامعة هيبتها واستقلالها.
في لحظةٍ كانت فيها مؤسسات كثيرة تتهيب المواجهة، اختارت رئاسة الجامعة آنذاك، ترسّيخ مبدأ أن القانون هو السيد، وأن الجامعة تُحكم بالنظام لا بالمزاج. وقد تجلت هذا المبدأ خلال اعتصامات كلية البوليتكنيك، حين حاولت بعض القوى الايدولوجية، تحويل الحرم الجامعي إلى ساحة تجاذب سياسي، فاشتعلت المواقف وتدخلت جهات عديدة مطالبةً بالتساهل، الا ان رئاسة الجامعة رفضت أن يُدار المشهد من خارج أسوارها. واذكر عندما طلب وزير الداخلية آنذاك إلغاء العقوبات أو ستتدخل قوات الدرك، ردّ رئيس الجامعة بحزم، أنا رئيس الجامعة، وسأتصرّف وفقًا للقانون ومصلحة الدولة والجامعة والطلبة، ولدينا مجالس حاكمية يجب احترام قراراتها.
تلك الجملة كانت إعلانًا لميلاد ثقافة جديدة في إدارة الجامعات، تقوم على أن هيبة الجامعة تُصان بالعدالة لا بالقوة، وبالقانون لا بالإملاءات. كانت تلك اللحظة إعلانًا صريحًا لولادة ثقافة جديدة في إدارة الجامعة، ثقافة لا تساوم على هيبة الدولة ولا على حرية الجامعة. وبذلك ترسّخت قاعدة جوهرية، "الجامعة كيان سيادي للفكر، وإن سُلبت استقلاليتها سقط معنى العلم ذاته".
منهياً بذلك أزمةً عانت منها الجامعة لسنوات طويلة، ومؤكدًا أن القيادة تُقاس بالصمود أمام الضغط لا بالانصياع له.
لم يكن مجلس الأمناء، برئاسة الراحل معالي هشام الخطيب، أقل حزمًا أو وضوحًا. فقد كان المجلس يرى في تلك المواجهة اختبارًا للجامعة الدولة، لا مشكلة جامعية، ووقفنا إلى جانب الرئيس دعمًا لقرار يستند إلى العقل لا إلى الانفعال، ومؤمناً بان الجامعة تتخذ قراراتها، ولا تُدار من قبل أصحاب النفوذ او مراكز القوى والمؤثرين.
كنا في مجلس الأمناء، نؤمن بأن الجامعة يجب أن تكون عقل الدولة لا تابعًا لأي جهة، وأن التعليم التطبيقي هو المدخل الحقيقي لتحديث الاقتصاد وتقليص البطالة. ومن هذا المنطلق اعد رئيس الجامعة آنذاك وفريقه مشروعًا وطنيًا متكاملًا تحت اسم برنامج تطوير المسارات المهنية والتطور الوظيفي، وهو نموذج متقدم في التعليم المهني والتقني يقوم على أن الطالب لا يدرس لنيل شهادة بل لبناء مسار مهني واضح يبدأ من المدرسة وينتهي بسوق العمل.
نال هذا البرنامج إشادة واسعة محليًا ودوليًا، واعتُبر تجسيدًا مبكرًا للرؤية الملكية في التعليم التقني، في ربطه للتعليم بالإنتاج، كرافعة للتنمية والاقتصاد الحديث.
ولتحقيق ذلك، استُثمرت الجامعة خلال 5 سنوات في البنية التحتية ما يقارب 57 مليون دينار، وفي التحول التكنولوجي نحو 18 مليونًا، من خلال منحٍ ومساعدات دولية تجاوزت قيمتها الإجمالية 25 مليون دينار، من إيطاليا وكوريا وألمانيا واليابان والصين، ومن جهات داخلية كشركة البوتاس والبنك الأهلي وغيرها.
لم يكن الأمر ترفًا إنشائيًا، بل رؤية لبناء جامعة قادرة على أن تكون حاضنة للتنمية في كل محافظة.
بهذه الخطوات، أعيد للجامعة حضورها في الأطراف وربطها بالمجتمع. وفي احدى الجلسات التقييمية لعلاقة مركز الجامعة بالكليات الخارجية، تبين للمجلس كيف تم إعادة تنظيم العلاقة، ما حقق انضباطًا إداريًا نادرًا وتناغماً في مؤسسة تمتد فروعها في كافة ارجاء الوطن، وكم كنت فخوراً كأحد أبناء الأردن وابن السلط، وانا استمع لقول رئيس الجامعة آنذاك متحدثاً امام مجلس الأمناء قائلاً "جامعة البلقاء وريثة مدرسة السلط الثانوية، واراد المغفور له الملك الحسين ان تذهب السلط الى الأردنيين في مدنهم، اما جلالة الملك عبدالله الثاني فكانت توجيهاته ان تعلم جامعة البلقاء الأردنيين المهارة في مدنهم".
كانت تلك الجملة مرآة لرؤية عميقة، أن الجامعة ليست حرمًا أكاديميًا بل مشروع وطني تنموي متكامل، وأن التعليم التطبيقي ليس درجة أقل من الأكاديمي، بل هو خط الدفاع الأول عن اقتصاد الدولة في زمن التحولات الكبرى.
بهذا المعنى، تحولت الجامعة إلى مؤسسة وطنية تنموية، تتجاوز التعليم إلى تمكين الإنسان والمجتمع، حتى وصفها المرحوم هشام الخطيب بأنها "الجامعة الدولة" أي الجامعة التي تتحمل مسؤولية وطنية شاملة.
في زمنٍ تخاف فيه بعض القيادات من التغيير، الا اننا كنا قد وجدنا فريق برئاسة الدكتور الزعبي، لا يعرف الخوف، ولم تكن الرؤية القيادية وليدة التجربة المحلية فحسب، بل ثمرة احتكاك عميق للرجل بأعرق المدارس القيادية في العالم، وتأثره بفلسفة الجامعات الأمريكية الكبرى رافضًا أسلوب الإدارة التقليدية القائم على التسكين والمحاباة والمهادنة. وبنفس الوقت متأثرًا بالأسلوب الألماني في الإدارة الدقيقة، والرؤية البريطانية، والجرأة الأمريكية، والواقعية الصينية وتجربتها القائمة على التحول التكنولوجي السريع. وبذلك يكون تشرّب فلسفة التفكير السريع في بيئات الضغط، وإدارة القرار في الأوقات الحرجة. فأرسى ثقافة التخطيط القائم على مؤشرات الأداء.
كنا نجد، بان فلسفة القيادية في الجامعة، قائمة على التمكين لا التسيير، إذ منح رئيس الجامعة فريقه الإداري الثقة لاتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، واضعًا ثقافة المكافأة، والمساءلة، والشفافية أساسًا لأي إنجاز، ويتحمّل مسؤولية أخطائهم أمام مجلس الأمناء، قائلًا دائمًا، في أي مسيرة تُرتكب الأخطاء، والخطأ جزء من العمل ما لم يكن مقصودًا، ومؤمنًا بأنّ الخطأ المقبول هو الذي يُعالج لا الذي يُخفى. بهذه الفلسفة بُنيت منظومة قيادية قائمة على العمل والمساءلة والشفافية.
في زمنٍ تداخلت فيه المصالح وتشابكت فيه الملفات، حافظت الجامعة على شفافيتها المالية والإدارية، حتى أصبحت مضرب مثل في الانضباط المؤسسي حسب التقييمات ومنها الرسمية لوحدة الرقابة الداخلية. لم تكن النزاهة لدى مجالس الحاكمية، بل ممارسة يومية. فكل مشروع كان يخرج إلى الضوء مكتملًا في أرقامه ونتائجه، وتحت رقابة محكمة من مجلس الأمناء والجهات الرقابية.
لم تكن المسيرة بلا تحديات. فقد واجهت الجامعة، ورئاستها، ومجلس أمنائها، هجمات من بعض المنتفعين والمتضررين من الإصلاح، وصلت حدّ إطلاق حملات التشويه. غير أن كل ملف كان يخضع للتدقيق والمتابعة الصارمة، اما مشروع توليد الطاقة الكهربائية الذي عملت عليه الجامعة لسنوات، فكان بمتابعته مباشرة من قبل الراحل هشام الخطيب ومن اللجنة الفنية ومن رئيس الجامعة (الذي تبين لاحقاً بعد مغادرتنا المجلس، بانه من أكبر مشاريع التنمية المستدامة بين الجامعات الأردنية الحكومية، وتم الاحتفال بافتتاحه بحفاوة)، ما يؤكد أن النزاهة كانت جزءًا من المنهج لا شعارًا للاستهلاك.
لم تكتفِ مجالس الحاكمية، بإصلاح الشؤون الإدارة والمالية والاكاديمية، بل تم العمل على نقل الجامعة إلى عصر التحول الرقمي الكامل، فكانت أول جامعة أردنية تمتلك نظامًا إلكترونيًا شاملًا لكل عملياتها الأكاديمية والإدارية والمالية والشؤون الطلابية. ما عزّز كفاءة الأداء والحوكمة المالية والإدارية. ووفّر هذا التحول ملايين الدنانير، وخلق بيئة شفافة تُقاس فيها الكفاءة بالأداء لا بالولاء.
كنا قد تابعنا في اللجنة المالية والإدارية بدقة أثر تلك الخطوات والقرارات الإدارية التي كانت تتخذ، مثل هيكلة التامين الصحي، وهيكلة رسوم التعليم التطبيقي والتقني (الذي حقق ايراد تجاوز 18 مليون دينار سنوي في عام 2020، لوحده، بعد ان كان يلحق خسائر كبيرة في الجامعة)، ورفع الطاقة الاستيعابية من 32 ألف الى ما يقارب 67 ألف طالب، وتفعيل نظام الهيئة التدريسية والإدارية وإدارة حسابات البنوك، ومعالجة ملف ديون الضمان الاجتماعي ضمن خطة واضحة، والإيرادات الذاتية وغيرها، والتي أخرجت الجامعة من ازماتها المالية خلال اقل من 5 سنوات.
وعلى الرغم من التخوف من قرارات التحول الرقمي السريع، الا ان رئيس الجامعة آنذاك، كان يقول امام مجلس الأمناء "الثورة الصناعية الرابعة لن تنتظر أحدًا، والتعليم الذي لا ينتقل من التلقين الى الابداع، ومن لا يتحول رقمياً يتحول تاريخًا.
كانت تلك الجملة أشبه بمان فستو الإصلاح الأكاديمي الحديث، إذ دعا إلى إنهاء حقبة الكتب الورقية، واعتماد الرقمنة التعليمية (فجهزت معظم القاعات لذلك) والتدريب التكنولوجي واكساب المهارات.
وقد قال الراحل هشام الخطيب ذات يوم في اجتماع رسمي، هذه الجامعة تُدار بعقل الدولة لا بجيوبها، ولهذا فهي تتقدم.
ان تجربتي في مجلس أمناء جامعة البلقاء التطبيقية، اكدت لي بأن الفكر المتنور والقيادة الجريئة يمكن أن تصنع تحولًا عميقًا في التعليم، وتعيد الاعتبار للعلم والانضباط والجدارة، وإلى العقل مكانته في زمنٍ تُختبر فيه الأمم بقدرتها على التجديد لا بالتكرار. فالقضية ليست في عدد المباني أو الشهادات، بل في نوعية العقول التي تُخرّجها، وفي مدى قدرتها على التفكير وبناء المستقبل.
لقد كنا في مجلس الأمناء متفقين بأن الجامعة عقل الأمة وضميرها، وقادرة على أن تكون شريكًا حقيقيًا في بناء المستقبل، لا مجرد تابعٍ لأي جهة كانت. وايقنت أن القائد الذي يرفض التدخل في قراراته يحمي كرامة المؤسسة ومن ثم الدولة، وأن الجامعة التي تجرؤ على قول "لا" حين يكون الصمت أسهل، هي الجامعة التي تكتب التاريخ.
اليوم، وبعد مرور أربع سنوات على مغادرتي لعضوية مجلس الأمناء ومغادرة المرحوم الخطيب لجوار ربه، ومغادرة الزعبي لموقع رئاسة الجامعة، التي قادها، جامعاً بين الصرامة والإنسانية، والانضباط والخيال الإصلاحي، والفكر الوطني والرؤية العالمية، يمكن لنا القول وبكل ثقة، من ان الجامعة انتقلت خلال تلك الفترة من جامعة مثقلة بالأزمات إلى نموذج وطني ناجح في الإدارة الحديثة، والتخطيط الاستراتيجي، وربط التعليم بسوق العمل، وهو الامر الذي أنقذها من الديون وكانت مثالاً للانضباط في زمنٍ اختلطت فيه المعايير، ووضعت على الساحة العالمية بقوة. كنا جميعاً نؤمن بان الجامعة مؤسسة وطنية فكرية، لا إقطاع لفئة مجتمعية محددة دون غيرها، فالسلط كانت في القلب، واربد في العقل ومعان في العيون.
فهل آن الأوان أن نمتلك الشجاعة للاعتراف بأننا كثيرًا ما نحاكم الإصلاح لا الفساد، ونخاصم القائد الجاد لأنه يزعجنا بانضباطه؟ وان نعترف بأننا ظلمنا أنفسنا وظلمنا رئيس الجامعة لتلك الفترة، وهو الذي حورب من بعض أصحاب المصالح والمتنفذين، وواجه حملات غير منصفة من بعض افراد المجتمعات المحلية، ولكل واحد منهم قصته المحفوظة في الملفات.
التاريخ لا ينسى من صنعوا الفرق، فهل تتكرر مثل هذه النماذج في جامعاتنا؟ لاستعادة هيبة الجامعات، وعقلها، تكون مصنعًا للنهضة، وحارسًا للعقل، ومرآةً للدولة حين تنظر إلى نفسها بصدق، وقيمها، لتظل كما أرادها الأوائل، ضمير الأمة وعقلها المفكر.