نبض البلد -
حاتم النعيمات
يهتم الكثير من الأردنيين بالشأن سياسي بشكل كبير، وقد لا يكتفي البعض بمتابعة ما يجري حولهم فقط، بل يسعون دائمًا إلى تقديم آراءهم في معظم قضايا الإقليم والعالم.
هذا الانخراط العميق له جذوره التاريخية؛ فالأردن الحديث نشأ في الأصل على أساس أن يكون نواة لمشروع عربي كبير بعد الثورة العربية الكبرى، كما أن القضية الفلسطينية وما تبعها من تفاعلات تركت أثرًا بالغًا في تشكيل الرأي العام، إذ استقرت على أرض المملكة تيارات أممية لا تؤمن كثيرًا بمفهوم الدولة الوطنية، كاليسار والقومية والإخوانية، ما أسهم عبر عقود في خلق مواطن أردني شديد التفاعل مع قضايا المنطقة والعالم، وهذا توصيف يدركه المراقبون جيدًا.
الجديد اليوم أن المنطقة تغيرت، وأصبحنا اليوم على أعتاب عصر جديد سيبدأ فعليًا في حال زوال صراع النفوذ بين إيران وإسرائيل، نهاية تبدو وكأنها الحلقة الأخيرة من مسلسل طويل بدأ فعليًا مع وصول آية الله الخميني إلى السلطة عام 1979. ويمكن تقسيم هذا الصراع إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى (1979) كانت مرحلة تسويق النظام الإيراني الجديد تحت شعار "تحرير فلسطين” والعداء لأمريكا وإسرائيل.
المرحلة الثانية (1982) بدأت بتأسيس حزب الله في لبنان ليكون الذراع الأبرز لطهران في المشرق العربي.
أما المرحلة الثالثة فجاءت خلال ما عُرف بالربيع العربي، حين استغلت إيران انهيار بعض الدول وأسست ميليشيات تابعة لها في اليمن والعراق وسوريا، فضلًا عن دعمها لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، لتصبح صاحبة نفوذ مباشر في خمس مناطق عربية.
هذا التمدد الإيراني الواسع خلال العقد الأخير جعل المنطقة مسرحًا دائمًا للاحتكاك بين إسرائيل وتلك الأذرع، تحت ظلال المفاوضات النووية بين طهران والغرب. وليس من الغرابة أن يدرك المتابع أن كل ما حلّ بالدول العربية الخاضعة للنفوذ الإيراني كان من أجل مقايضات إيران السياسية مع الغرب، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتفتح الباب أمام مشهد جديد أدى إلى تقليص الدعم الأمريكي لأوكرانيا مقابل إشعال جبهة في الشرق الأوسط؛ فحدث ما أرادته موسكو، وتقاسمت إسرائيل المساعدات مع كييف، التي لم تُخفِ استياءها من ذلك. بمعنى آخر، المصالح تشابكت، روسيا طلبت من إيران إشعال الجبهة، وطهران طلبت من حماس التنفيذ، وكالعادة كان الثمن دماء الشعوب العربية.
لكن ردة فعل واشنطن وتل أبيب جاءت صادمة، إذ تقرر تدمير أذرع إيران ابتداءً من غزة، ثم لبنان وسوريا، مع تحييد العراق ومحاصرة اليمن، وبناء على ذلك، أوعزت/سمحت واشنطن لإسرائيل ببدء مرحلة جديدة تستهدف "رأس محور المقاومة” ذاته في شهر حزيران، أي إيران، مع إنهاء جوهر الصراع المتمثل في برنامجها النووي، وقد نفذت إسرائيل ذلك فعليًا.
النتائج اليوم واضحة ومؤلمة في آن واحد؛ فالقضية الفلسطينية تكبدت دمارًا هائلًا، والعقل العربي الغارق في الانفعال ما زال ينتظر الخوارق لحل أزماته. في المقابل، تضخمت القوة الإسرائيلية إلى حدٍّ غير مسبوق، إذ أصبحت قادرة على خوض معارك متزامنة على عدة جبهات، آخرها إيران ذاتها، وبدأنا نقبل بأنصاف الحلول لإنهاء النزيف.
من هنا، فإن الحاجة اليوم ملحّة لصحوة عربية شاملة، تعيد ترتيب الأولويات وتتهيأ للنظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل أمامنا؛ فهذه المنطقة المنهكة لا تحتمل جولة جديدة من الفوضى، إذ تحتاج إلى عقود طويلة كي تتعافى أجيالها من تبعات الأوهام التي عاشت فيها.
أما الأردن، فيحتاج إلى صحوة سياسية على مستوى الأحزاب والتفاعل العام مع الأحداث، فهو معنيّ أكثر من غيره باستثمار موقعه وتاريخه ليكون ركيزة أساسية في النظام العربي المقبل، كونه المتضرر الأكبر من التحولات الجارية. لكن هذه الصحوة المنشودة لا يمكن أن تكون سياسية فقط؛ بل فكرية أولًا، لأن أي مشروع نهضوي حقيقي يبدأ من إعادة طرح سؤال "النتائج” بدلًا من الاكتفاء بجدل "النوايا”، ووضع المصالح الوطنية الخالصة دائمًا في المقدمة لا مصالح الآخرين، وهذا يتطلب عملًا متواصلًا من مؤسسات التنشئة والإعلام، لتكون قادرة على بناء وعي جديد يواكب المرحلة ويصون هوية الدولة ودورها العربي.