نبض البلد -
هل استيقظت الإنسانية يومًا على صراخ المظلومين وآهاتهم، وقامت بحرب على الظالمين؟ أم كان على المظلومين أن يسعوا في سبيل تحرير أنفسهم؟ أم أن القوي اليوم يسعى للقضاء على الضعيف وأخذ ما لديه بالقوة؟ بل حتى باسم قوى العدل الدولية والمنظمات الدولية، وهي من منحتْ نفسها حقّ النقض (الفيتو)، حتى تقول للضعيف: «نحن من يملك أن يقول وأنت فقط تسمع»، وعندما تقول، نقول لك: «نحن من يملك الحق في القول أم أنت، فلك الفيتو». ولا تملك القوى العالمية مجتمعة حق إزالة هذا الحق حتى توافق هذه الدول على التنازل عنه. هذه مجالس أممية تعطي المبرر للمحتل في احتلاله، ولا تُعطى الضعيف ولا الدول كلها مجتمعة حقّ النقض (الفيتو)، حقّ ما تستطيع هذه الخمس نقضه أو قبوله. إذاً العالم هو هذه الخمس، وأم الباقي فباقٍ.
ماذا تعني كل هذه الكلمات والمؤتمرات والشجب والإنكار لمن يعيش يوميًا تحت القنابل والترحيل والتجويع والتخويف؟ البعض يخاف من الحرية، ويسعى لرضا السيد المنعم المتفضل، أو حتى يحظى بحرية كاذبة ويشعر معها بالأمن الكاذب في ظل هذه النوع من التحالفات. ونسِيَ أن مجنَّدة أو مُسيّرة تُزيل كل ذلك، وأن ما يأخذه هو فقط جزء ضئيل مما يسرقه هذا السيد منه، وما حدث في الدول التي كانت مستعمرة خير دليل على ذلك. الضعيف في محاولة دائمة لعقد صداقات وصفقات وتحالفات تساهم في بقائه ووجوده؛ نعم، ويشكل ما يشبه الدول والحكومات وهي في الحقيقة منظمات وأنظمة تحكم شعوبها بأسماء مختلفة، ولكنها بعيدة عن أن تكون مجتمعات حرة.
وهنا يحضرني ما حصل عندما ضاقت مناطق المستوطنين الجدد في عهد جورج واشنطن بهم، فسعوا إلى التوسع في المناطق التي كانت القبائل الأمريكية الأصلية تسكنها. وهنا تحرَّك القائد ليتل توريتل في العام 1791، لتبدأ حرب استنزاف قادها المستوطنون بقيادة جورج واشنطن لدفع القبائل الأصلية — سكان البلاد — مئات الكيلومترات إلى خلف نهر أوهايو. هذه الحرب استمرت عقودًا، وفي النهاية رضَخ الزعيم ليتل توريتل وأعلن استسلامه رغبةً منه في الحفاظ على ما تبقى من القبائل. وهنا لا بد أن نذكر أن القوات البريطانية التي بدأت بالتراجع أمام المستوطنين كانت تدعم بالسلاح والغذاء هذه القبائل الأصلية، ولكن لم تُعطهم ما ينتصرون به وهو المدافع، وإنما أبقت على الأسلحة الخفيفة والبارود. وهنا يتضح أن القوات البريطانية كانت تسعى لحرب استنزاف للطرفين، وتبقى السياسة البريطانية رمزًا في اللعب غير النظيف. المهم هنا: بعد الاستسلام لم يبقَ لهذا الزعيم لا شعبٌ ولا أرض.
هكذا هي القوة، ولو انتقلت القوة إلى الطرف الآخر فحتماً سيحدث عندهم ما كان يحدث هنا، بل هذا ما كان يحدث. والتاريخ حافل بالقصص الحديثة: عندما انتصرت ألمانيا على دول أوروبا، ماذا حدث؟ فهذا في الحقيقة جزء من البحث عن النجاة في ظل هذه الظروف؛ ظروف الضعف والهوان والذل والانكسار. وهنا وقفنا احترامًا عندما خرجت الوزيرة الإيطالية لتعطي ماكرون درسًا في الأخلاق عن دوره في أفريقيا، ولكن هل نسيت الوزيرة أو تناست دور إيطاليا المشابه تمامًا لما قامت به فرنسا قبل ذلك في ليبيا وغيرها، وكيف سعت لتوظيف رجالات من الطابور الخامس لتبرير ما قامت به إيطاليا؟
لذلك لا تُجلد نفسك كثيرًا؛ فهذا هو حال الأمم الضعيفة دائمًا. هم هكذا: حياة البعض قائمة على هذا النوع من التحالفات مع القوى هنا وهناك في سبيل الحماية والاستمرار لا في سبيل العزّة والكرامة والحرية في كثير من الأحيان. في كل الأمم وعلى مرّ التاريخ هو هكذا، حتى تصل الشعوب إلى حالة من الوعي تدرك فيها كم هو سوء هذا الحال وكم هم سيئون أولئك الذين كانوا يسوقون هذا على أنه حال لا بد منه، ولن نستطيع التخلص منه. مع أن الحقيقة أن تكلفة التخلص منه هي جزء يسير من التكلفة الحقيقية لوجوده، ولكن لا بد أن تقتنع الأغلبية بذلك، وإلا لن تنفع الحركة البعض في التخلص من هذا الواقع.
وربما هذه الأصوات التي تنادي للبريكس اليوم يجب أن تنادي بإعادة هيكلة المجالس الأممية، وهذا ما بدأ يحدث؛ لتُنادي بالعدالة بين شعوب الأرض، وتُنادي بإيقاف هذا الظلم الذي أقرّه نظام استعماري فئوي تسلّطي عنصري سابق. ولكن في ظلّ هذا التشتّت، وفي ظلّ حرص تلك الفئة المحرومة من الحقوق حتى في أقل صورها، وفي ظلّ ضعفها وتخاذلها عن القيام بالدفاع عن حقوقها وعن حقها في الحياة وتقرير المصير والحفاظ على شعوبها وحرياتها وكرامتها، ستبقى تعيش في سبيل حياة منزوعة من أدنى الحقوق، وحتى حق تقرير القبول أو الرفض.
الطريق هنا بدأ يتشكل، ولكنه لا يأتي بدون تضحيات، والمواقف تأتي مع تضحياتها، وكل حسب استطاعته. نعم، لن يتغير الحال بين عشية وضحاها؛ طريق الحرية ليس مفروشًا بالورود. ولو كل واحد منا قدم استطاعته من مال وكلمة وموقف لساهم في تغيير هذا الواقع، ومن يظن الدول مجنونة عليه أن يعيد حساباته، ولكنها تدرس بعناية تلك الموازنات بين القوى والظروف لتحدد مصالحها، والظرف الراهن اليوم دقيق جدًا، وهناك تحالفات بدأت بين دول لم نكن نتخيل يومًا حدوثها. هناك حراك كبير على مستوى الدول العربية والإسلامية، وهناك حراك أكبر على مستوى دول العالم. نسأل الله أن تكون هذه أرهاصات البداية لتخلص من هذا النظام العالمي.
إبراهيم أبو حويله