نبض البلد -
حاتم النعيمات
بلغة المحاور، فلم يعد اليوم في الساحة سوى مجموعة الدول التي أطلق عليها إسم دول الاعتدال العربي (الأردن ومصر ودول الخليج)، وهذا المسمى كان بالقياس مع مجموعة دول أخرى أطلق عليها وصف دول محور المقاومة وهي سوريا إبان حكم الأسد، ولبنان عندما كان حزب الله قويًا فيها، والعراق في أوج المليشيات المرتبطة بإيران، والحوثيين، بالإضافة إلى حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة.
لكن تبعات السابع من أكتوبر وردة فعل "إسرائيل: بدعم أمريكي أنتج تحولات عاصفة أضعفت معظم قوة معسكر المقاومة، واليوم، وبعد الضربة التي تعرضت لها الدوحة، عاد الجدل العربي الداخلي ليشتعل من جديد بين من يتمترسون خلف الشعارات، وبين من يصرّون على الواقعية السياسية والعقلانية الدبلوماسية، خصوصًا في سياق التعليق على القمة العربية الإسلامية الأخيرة .
وبين هذين الخطين، برزت أصوات ما زالت تصرّ على مهاجمة الاعتدال العربي أو "خط السلام العربي”، متناسية أن هذا الخط أثبت في سياق منع التهجير والتحشيد ضد "إسرائيل" أن لم يكن يومًا استسلامًا، بل كان استراتيجية تحصينٍ للموقف العربي وإبقاءً للقضية الفلسطينية على جدول الاهتمامات الدولية. هؤلاء الذين يهاجمون محور الاعتدال في كل مناسبة هم غالبًا الأكثر استفادة من القضية الفلسطينية بالتربُّح، فيما الشعب الفلسطيني نفسه ما زال يئن تحت وطأة الاحتلال والحصار والانقسام.
إن التوقف عن جلد محور الاعتدال لم يعد خيارًا بل ضرورة؛ ففي خضم هذا الزلزال السياسي والعسكري الذي فجّرته "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر، أثبتت الأحداث أن البدائل التي تقوم على "المواجهة غير المدروسة" لم تحرر أرضًا ولم تحقن دمًا، فما الذي جنته غزة من تحويلها إلى ساحة مفتوحة للتجارب؟ وما الذي كسبه الفلسطينيون من شعارات لم تتجاوز حناجر بعض القادة؟. في المقابل، أظهرت الحكمة الأردنية والمصرية والخليجية أن ضبط الإيقاع العربي ضمن أطر الرصانة الدبلوماسية، هو الطريق الأكثر أمانًا والأكثر تأثيرًا على المدى الطويل.
الجديد اليوم أن محور الاعتدال لم يبقَ في دائرة الكلام، فبعد تمرد "إسرائيل: العلني على كل الاتفاقيات والقرارات الدولية، صَبغ هذا المحور تحركه بلونٍ جديد، يكاد يقترب من الطابع شبه العسكري، فقد تصاعد الحديث عن إنشاء قوة عربية مشتركة أو ما سمي بـ "الناتو العربي”. وهذا الطرح لم يكن عبثيًا، بل جاء كرسالة مزدوجة: الأولى إلى "إسرائيل" بأن العرب قادرون على تجاوز مرحلة الانتظار والاكتفاء بالوساطات، والثانية إلى المجتمع الدولي بأن زمن استفراد تل أبيب بالمعادلات الأمنية قد انتهى، فالمصالح الأمريكية في المنطقة أصبحت في مهب الريح.
إن التفكير العربي بإنشاء قوة مشتركة لا يعني انقلابًا على الدبلوماسية، ولا هو محاولة لخلق انزياحات في النظام العالمي الحالي، بل هو تكامل بين أدوات القوة والواقعية، فالعسكري والدبلوماسي ليسا نقيضين إذا تم استغلالهما بالتخطيط والحكمة. لقد أثبتت التجربة أن الميدان العسكري مهما كان ضجيجه، يظلّ بحاجة إلى غطاء سياسي ودبلوماسي يمنحه الشرعية ويصوغ له المخرجات. ومن هنا لم يعد منطقيًا الاحتكام فقط إلى لغة الشعارات؛ فالعقلانية السياسية هي التي تضمن تحويل أي إنجاز عسكري إلى مكسب دائم.
لقد برهنت الأحداث الأخيرة أن سلوك الاعتدال العربي بقيادة الأردن ومصر ودول الخليج ليس مجرد خيار تكتيكي، بل رؤية استراتيجية متكاملة. الأردن، وهو الأقرب جغرافيًا وسياسيًا من القضية، حمل على كتفيه عبء الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية، مصر بدورها أعادت تثبيت نفسها كصاحبة الدور المركزي في أي معادلة تخص غزة، والخليج تحرك بقدراته المالية والسياسية ليوازن كفة العرب في مواجهة الضغوط الأمريكية، هذه السلة المتنوعة من الأدوار والخيارات شكّلت مظلة عقلانية حالت دون انزلاق المنطقة نحو صراع شامل لا يعرف أحد حدوده.
ولقد لاخط الحميع أن خطابات الزعماء خلال القمة العربية الإسلامية خصوصًا الأردن ومصر (دول الطوق المتماسكة) لم تخلُ من لغة التهديد، فقد أكد جلالة الملك عبد الله الثاني على أهمية الفعل على أرض الواقع وألا تختزل الأمور بالتصريحات، كما استخدم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لفظة العدو في سياق حديثه عن "اسرائيل".
وعلى المقياس الزمني الطويل، هناك مسافة تزداد بين واشنطن وتل أبيب رغم ما نراه من دعم مطلق اليوم، فهذا الدعم يخص إنقاذ "إسرائيل" من جبهاتها المفتوحة اليوم، ومن أنانية نتنياهو وسعيه لتحقيق مصالحه الشخصية، وتشير الكثير من القراءات إلى أن ماكينة "المراجعة الشاملة" قد تحركت داخل "إسرائيل" وأمريكا فيما يخص مصالح الولايات المتحدة مع بقية دول المنطقة، وبما يخص حالة "الحرب من طرف واحد" التي أُجبر سكان "إسرائيل" على تحملها لما يقارب العامين.
إن المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة بعد هذه الذروة من الاضطرابات، وفيها ما يكفي من المخاطر وفيها في المقابل ما يكفي من الفرص. وإذا كانت "إسرائيل" اختارت التمرد على القانون الدولي، فإن الرد العربي أصبح قادرًا على أن يبقى عقلانيًا، ومستعدًا في الوقت ذاته بخيارات دفاعية مشتركة وهذا ما يجري الحديث عنه في الكواليس اليوم، بذلك فقط يمكن للعرب أن يثبتوا أن خطابهم ليس ترفًا سياسيًا، بل برنامجًا واقعيًا يقود إلى مستقبل مختلف.