هندية: البنية الخضراء ليست رفاهية.. إنما حماية في وجه مناخ يزداد قسوة
شوشان: الاستثمار في المناخ لم يعد خيارًا.. بل ضرورة لحماية الأجيال القادمة
الأنباط – ميناس بني ياسين
في كل صيف، تتكرر الحكاية نفسها: شمس حارقة، موجات حر خانقة، وشوارع تلتهمها الخرسانة والإسفلت، تبعث وهجاً يكاد يحرق الهواء نفسه. ,يخرج المواطن إلى عمله فينهكه العرق منذ الخطوة الأولى، يختنق من ثقل الجو، ويكره فكرة مغادرة بيته، يتمنى لو يختفي عن الشارع؛ فلا ظل شجرة يحتمي به، ولا نسمة تخفف وطأة القيظ، ولا مشهد أخضر يكسر وحشية اللون الرمادي المهيمن.
مشهد يتكرر كل يوم: مواقف حافلات بلا مظلات أو مقاعد، أرصفة تتوهج بحرارة الشمس، وركام من الإسفلت والخرسانة يعكس الضوء والحرارة ليشكل مشهداً أقرب إلى أفران الصهر. وبينما تتوالى الخطابات الرسمية عن "مدن خضراء” و”استدامة بيئية”، يبقى الواقع الرمادي المشتعل سيد الموقف، وتبقى الحقيقة أن مدننا ما تزال تفتقر إلى الممرات المظللة والمساحات الخضراء التي تحمي الناس من قسوة المناخ.
فمتى يتحول الكلام إلى فعل؟ ومن يتحمل مسؤولية ترك الناس تحت رحمة صيف يزداد قسوة، بلا حماية، وبلا أخضر يقيهم؟
مستقبل حراري قاسٍ إذا استمرت الفجوة الخضراء
الخبيرة في شؤون البيئة والمياه، منى هندية، حذرت من أن استمرار تجاهل البنية التحتية الخضراء خلال العقد المقبل، في ظل تسارع وتيرة التغير المناخي، قد يدفع المدن الأردنية إلى مواجهة سيناريوهات بيئية وصحية واجتماعية قاسية.
وقالت في حديثها لـ”الأنباط” إن زيادة امتصاص الأسطح الصلبة كالأسفلت والخرسانة للحرارة، قد ترفع درجات الحرارة في الأحياء الحضرية بمعدل يتراوح بين 3 و7 درجات مئوية مقارنة بالمناطق الريفية، ما سيؤدي إلى موجات حر أطول وأكثر حدة، وزيادة استهلاك الطاقة للتبريد، وارتفاع معدلات الإجهاد الحراري وضربات الشمس، خاصة بين كبار السن والأطفال.
وأضافت أن تلوث الهواء وتفاقم أمراض القلب والجهاز التنفسي سيكونان من أبرز تداعيات غياب الغطاء النباتي، إذ تتراجع قدرة المدن على امتصاص الملوثات، ما يزيد من الضباب الدخاني وتراكم الجسيمات الدقيقة الضارة.
عبء مضاعف على الأحياء الفقيرة
وأشارت هندية إلى أن الأحياء الفقيرة ستكون الأكثر تضرراً، نظراً لغياب الأشجار والمسطحات الخضراء، ما يوسع الفجوة مع المناطق الميسورة القادرة على توفير حلول خاصة للتبريد. وبيّنت أن ارتفاع فواتير الطاقة الناتج عن الاعتماد المفرط على أجهزة التكييف سيزيد العبء الاقتصادي، إلى جانب ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية بسبب الأمراض المرتبطة بالحرارة والتلوث، وتفاقم أضرار البنية التحتية نتيجة الفيضانات أو التمدد الحراري.
خارطة طريق للتحول الأخضر
وأكدت هندية ضرورة تبني رؤية شاملة تشارك فيها الحكومة والبلديات والمجتمع والأفراد لتحقيق مدن أكثر خضرة وقدرة على التكيف مع التغير المناخي. ودعت إلى إصدار قوانين تُلزم بتخصيص نسب محددة من المساحات الخضراء في المشاريع العمرانية الجديدة، ودمج معايير البنية التحتية الخضراء في كودات البناء الوطنية، وتقديم دعم مالي أو إعفاءات ضريبية للمشاريع التي تعتمد الأسطح الخضراء أو الأرصفة المسامية.
كما أوصت بتخصيص ميزانيات لمشاريع المدن الإسفنجية، والحصاد المائي، وإعادة تأهيل الحدائق، وزراعة الغابات حول المدن، وإدماج خطط التكيف مع تغير المناخ في استراتيجيات التنمية الحضرية، مع ربط جهود وزارات البيئة والأشغال والمياه والطاقة لتحقيق رؤية متكاملة.
غياب الضغط الشعبي.. عقبة صامتة
ولفتت الخبيرة إلى أن غياب الحراك المجتمعي يعدّ من أبرز العوائق أمام تبني البنية التحتية الخضراء، موضحة أن التجارب الدولية، مثل برشلونة وملبورن، أثبتت أن الضغط الشعبي المنظم – عبر العرائض، والاحتجاجات السلمية، والشراكات مع الإعلام – سرّع من تنفيذ المشاريع الخضراء، في حين بقيت المدن التي تفتقر للحراك الشعبي حبيسة المشاريع التجريبية.
إرادة سياسية وتمويل مبتكر
وأوضحت هندية أن القصور لا يكمن فقط في التشريعات، بل في ضعف الإلزام والمتابعة وغياب الحوافز الاقتصادية. وانتقدت غياب قوانين أو كودات بناء ملزمة تفرض إدماج عناصر البنية التحتية الخضراء، مشيرة إلى تضارب القوانين وغياب التكامل بينها. ودعت إلى إنشاء منصة تشريعية موحّدة لربط الاستدامة البيئية بالتخطيط العمراني، وتبني آليات تمويل مبتكرة مثل السندات الخضراء أو الشراكات طويلة الأمد مع القطاع الخاص.
البنية الخضراء.. ضرورة وليست رفاهية
واختتمت هندية بالتأكيد على أن التحول إلى مدن خضراء في الأردن ليس رفاهية جمالية، بل ضرورة اقتصادية وصحية وأمنية، موضحة أن الاستثمار في المساحات الخضراء اليوم قد يوفر ملايين الدنانير مستقبلاً في فواتير الطاقة والرعاية الصحية، ويحمي الأرواح من قسوة المناخ المتغير. وقالت: "حتى ذلك الحين ستبقى عمّان وإربد والزرقاء والمفرق مدناً تتنفس بصعوبة تحت قبضة الإسفلت، بانتظار أن يتحول اللون الأخضر إلى جزء من التخطيط الحضري، لا مجرد شعار في مؤتمر بيئي”.
إنجازات ملموسة في مسار التحول الأخضر رغم التحديات
أكد الخبير البيئي عمر شوشان أن الأردن يسير في مسار حاسم نحو التحول الأخضر، مستنداً إلى رؤية التحديث الاقتصادي 2022–2033، والتزاماته الدولية في مواجهة تغير المناخ، وفي مقدمتها وثيقة المساهمات المحددة وطنياً (NDCs)، التي تستهدف خفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 31% بحلول عام 2030. وأشار إلى أن تحقيق هذا الهدف الطموح يتطلب تمويلاً يقدر بـ7.5 مليار دولار، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً وفرصة استثمارية نوعية في الوقت ذاته.
قفزة نوعية في الطاقة المتجددة
وأوضح شوشان أن الأردن حقق تقدماً كبيراً في قطاع الطاقة المتجددة، حيث ارتفعت مساهمتها من أقل من 1% عام 2014 إلى أكثر من 27% من إنتاج الكهرباء بحلول عام 2023، عبر مشاريع ريادية في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في معان والطفيلة، ما جعل التجربة الأردنية واحدة من أبرز قصص النجاح في المنطقة. وأضاف أن سياسات داعمة مثل الاستراتيجية الوطنية للنمو الأخضر وخطط التكيف المناخي عززت هذا التوجه، مشيراً إلى أن رؤية التحديث الاقتصادي تتضمن أكثر من 100 مبادرة بيئية تربط بين الاستدامة الاقتصادية والحماية المناخية في قطاعات الطاقة والمياه والنقل والزراعة والنفايات.
فرص استثمارية بقيمة 9.5 مليار دولار
وبيّن شوشان أن تقرير البنك الدولي أشار إلى امتلاك الأردن فرصاً استثمارية مناخية تصل قيمتها إلى 9.5 مليار دولار حتى عام 2030، تشمل مشاريع الطاقة الشمسية وتخزين الكهرباء، وتطوير البنية التحتية للنقل العام والسيارات الكهربائية، ومشاريع تحلية المياه وإعادة استخدامها، وأنظمة زراعية ذكية مناخياً. وقال: "هذه الفرص ليست مجرد أدوات للحد من الانبعاثات، بل تمثل ركيزة للنمو الاقتصادي الأخضر وخلق فرص عمل مستدامة في الاقتصاد المحلي”.
تحديات بنيوية ومالية
ورغم الإنجازات، أشار شوشان إلى وجود تحديات جوهرية، أبرزها الفجوة التمويلية الكبيرة، إذ أن الكلفة المطلوبة لخفض الانبعاثات تفوق بكثير الإمكانيات المالية المحلية، مع اعتماد نسبة كبيرة من أهداف NDCs على التمويل الخارجي، ما يجعل التنفيذ مرتبطاً بالتزامات المجتمع الدولي. كما لفت إلى ضعف التنسيق المؤسسي نتيجة تداخل الصلاحيات بين الجهات الحكومية، وندرة المياه التي تجعل الأردن من أفقر الدول مائياً، إضافة إلى محدودية الوعي المجتمعي بقضايا المناخ، وهو ما يقلل من فاعلية الاستجابات الشعبية.
شراكات وتمويل مبتكر
وشدد شوشان على ضرورة تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص لجذب الاستثمارات الخضراء، ودمج السياسات المناخية في الموازنة العامة وتخطيط المشاريع الوطنية، وتحفيز الابتكار والتكنولوجيا النظيفة خصوصاً لدى الشباب ورواد الأعمال، إلى جانب توسيع برامج التوعية البيئية ودمج قضايا المناخ في المناهج التعليمية.
واختتم قائلاً إن الأردن يمتلك الإرادة السياسية والخطط الواضحة لتحقيق تحول أخضر شامل، مؤكداً أن الاستثمار في المناخ لم يعد خياراً بل ضرورة اقتصادية وبيئية تمكّن البلاد من مواجهة تحديات التغير المناخي وتحقيق تنمية مستدامة تليق بطموحات الأجيال القادمة.