مجالس المحافظات بين التقييم والتطوير… لا الإلغاء

نبض البلد -
مجالس المحافظات بين التقييم والتطوير… لا الإلغاء

بقلم: عماد عبدالقادر عمرو – رئيس مجلس محافظة العقبة سابقًا

مع صدور قرار رئيس الوزراء بحل مجالس المحافظات وتعيين لجان مؤقتة لإدارة شؤونها، يجد المتابع نفسه أمام لحظة مفصلية تستدعي التوقف، لا للمحاسبة وحدها، بل للتفكير الهادئ والمسؤول في مستقبل اللامركزية الإدارية والتنموية في الأردن.

لقد شُكّلت مجالس المحافظات في إطار رؤية ملكية سامية، هدفت إلى تعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار، وتقريب الخدمة من المواطن، وتحقيق التنمية المتوازنة في جميع المحافظات. وهي ليست تجربة عابرة أو فكرة مرحلية، بل ركن أساسي من أركان الإصلاح الإداري والسياسي الذي تبنته الدولة بوعي واستراتيجية.

ومن هنا، فإن أي خطوة باتجاه الإلغاء الكامل لهذه المجالس – إن ثبت وجود نية لذلك – لا يجب أن تُفهم على أنها تصويب مسار، بل تراجع صريح عن منجز إصلاحي مهم، وعن مفهوم المشاركة الشعبية في القرار المحلي، الذي يُعد من ركائز أي نظام ديمقراطي حديث.

صحيح أن تجربة المجالس لم تخلُ من التحديات والإخفاقات، كحال أي تجربة ناشئة في بيئة مركزية مترسخة، لكن الصحيح أيضًا أن هذه المجالس حققت الكثير من الإنجازات التنموية والخدمية، ونجحت – في بعض المحافظات – في دفع عجلة الشراكة المجتمعية والمساءلة والشفافية.

ومن غير المنصف تقييم هذه التجربة بمنظور أحادي يسلّط الضوء فقط على الإخفاقات، متجاهلاً الإنجازات التي تحققت رغم التحديات والصلاحيات المحدودة. بل كان الأجدر أن تقوم وزارة الإدارة المحلية، بصفتها المرجعية الإدارية للمجالس، بنشر بيانات الإنجاز ونسب تنفيذ المشاريع وموازنات الإنفاق بشكل شفاف للرأي العام، لتكون مرجعية موضوعية في تقييم التجربة بدلًا من الاعتماد على الانطباعات أو المعالجات السياسية الظرفية.

وعلى صعيد العلاقة بين المجالس المنتخبة والجهاز التنفيذي، فإن التجربة أثبتت أن التحدي الأكبر لم يكن في وجود تضارب صلاحيات، بل في عدم تفعيل الصلاحيات المنقولة للمديرين التنفيذيين، حيث بقي القرار التنفيذي النهائي مرهونًا بوزارات المركز، ما قيد قدرة المجالس والمديرين على العمل المشترك وتحقيق التكامل. وكان نقل الصلاحيات في كثير من الأحيان شكليًا، يفتقر إلى التمكين الإداري والمالي الحقيقي.

وقد أسهمت مجموعة من المعوقات في تعثر الإنجاز وتأخر تنفيذ المشاريع، أبرزها:
طول فترة إعداد الدراسات الفنية للمشاريع، مما أدى إلى تأخير في طرح العطاءات رغم جاهزية التمويل.
اعتماد موازنات صفرية غير مدورة لمجالس المحافظات – بخلاف البلديات – الأمر الذي تسبب في تعطل مشاريع وخسارة التمويل السنوي غير المنفذ.
منع المناقلات بين بنود وقطاعات الموازنة، ما حرم المجالس من المرونة المالية، فعندما يتعطل مشروع ما، لا يمكن تحويل مخصصاته إلى مشروع آخر أكثر جاهزية أو أولوية.

ورغم هذه المعيقات، عملنا – في مجلس محافظة العقبة – بروح المبادرة، فخرجنا عن النمط التقليدي وأطلقنا شراكات ريادية مع مؤسسات وطنية موثوقة، في مجالات الشباب، المرأة، الطفولة، والصحة المجتمعية، وأحدثت هذه الشراكات أثرًا ملموسًا، وتحوّلت لاحقًا إلى نماذج يُحتذى بها على مستوى محافظات أخرى.
وهذا يؤكد أن المجالس، حين تُمنح الأدوات والصلاحيات، قادرة على الابتكار والتكامل مع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

وفي خضم النقاش حول بدائل اللامركزية، يطرح البعض فكرة تفويض الصلاحيات للمديرين التنفيذيين دون الحاجة إلى وجود مجالس منتخبة. وهنا لا بد من التوضيح أن تفويض الصلاحيات الإدارية – وإن كان ضرورياً – لا يُغني عن التمثيل الشعبي، فغياب المجالس يعني تغييب صوت المواطن، وهذا يتناقض مع أبسط مبادئ الديمقراطية والمشاركة المجتمعية.

وبدلًا من إلغاء المجالس أو تهميشها، كان الأولى أن تبادر الحكومة بالتعاون مع مجلس الأمة إلى عقد لقاء وطني تشاوري يضم رؤساء المجالس في دورتيها الأولى والثانية، لاستعراض التجربة ميدانياً، والاستفادة من التقييم العملي لمَن عايش الواقع وخبر التحديات على الأرض. إن هؤلاء الرؤساء يحملون معرفة ميدانية قيمة يمكن أن ترفد تطوير القانون والهيكل التنظيمي للمجالس، بدلاً من إنهاء التجربة بالكامل.

وإننا – من واقع هذه التجربة – نطرح مجموعة من التوصيات العملية التي يمكن أن تسهم في تطوير أداء المجالس وتعزيز فاعليتها:
1.تحديث قانون الإدارة المحلية ليواكب منظومة الإصلاح السياسي والإداري، ويرسّخ مبدأ اللامركزية التنموية الفعلية.
2.تقليص عدد أعضاء المجالس بما يحقق الكفاءة والفاعلية، مع الحفاظ على التمثيل الجغرافي.
3.إلغاء نظام التعيين داخل المجالس، والاعتماد الكامل على الانتخاب الديمقراطي لممثلي المحافظات.
4.ربط المشاريع التنموية بالخطة الإستراتيجية الوطنية، بتنسيق مشترك بين الوزارات ومجالس المحافظات لضمان التكامل وعدم التكرار.
5.تمكين المديرين التنفيذيين من الصلاحيات المالية والإدارية الحقيقية، وتفعيل لجان الشراء المحلية لضمان تسريع تنفيذ المشاريع.
6.توضيح آليات إنفاق نسبة الـ40% المخصصة للمشاريع الاستثمارية، وتوسيع دائرة الشراكة مع القطاع الخاص والمؤسسات المجتمعية.
7.منح المجالس المرونة المالية في إجراء المناقلات بين المشاريع، ضمن معايير تضمن العدالة والكفاءة.
8.إعداد دراسات مستقلة لأداء البلديات لبيان الإيرادات، والنفقات، والهدر إن وجد، بدلاً من إصدار قرارات دمج أو حل غير مبنية على أرقام دقيقة.

في المحصلة، فإن المجالس المنتخبة ليست عبئاً، بل فرصة إصلاحية ينبغي تطويرها. وإلغاؤها – إن حصل – سيكون تراجعًا عن مكتسب ديمقراطي تم بناؤه خلال سنوات، وسابقة غير مشجعة على مستوى الإصلاح الشامل الذي نطمح إليه كمجتمع ودولة.

إننا لا نطلب استمرار المجالس بشكلها الحالي، بل نطالب بمراجعة جادة وشاملة، تُبنى على التقييم، وتستند إلى الحوار، وترتكز على إرادة التطوير. فتراكم التجارب هو الذي يبني الدول، لا الانسحاب منها.