نبض البلد -
بقلم: أنس الطنطاوي، المتخصص في برامج الوقاية والتوعية
أولاً: العصر التكنولوجي بين الإيجابيات والسلبيات
نحن اليوم نعيش في عصر التكنولوجيا المتسارع، عصر المعلوماتية والاتصال اللامحدود، الذي حول العالم بأسره إلى قرية كونية صغيرة بفضل شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي المتعددة. هذا التقدم التكنولوجي، وعلى الرغم من إيجابياته الهائلة التي يسرت حياتنا وفتحت آفاقًا واسعة للمعرفة والتواصل البشري، إلا أن له جوانب سلبية وأخطارًا قد تهدد أمن مجتمعاتنا واستقرارها بشكل مباشر وغير مباشر.
ثانياً: الاستغلال السلبي للتكنولوجيا وظهور الذباب الإلكتروني
من أبرز هذه الجوانب السلبية التي برزت بوضوح في هذا العصر، هو الاستغلال السيئ للتكنولوجيا من قبل أفراد أو كيانات تعمل في الخفاء. هؤلاء يستغلون الفضاء الرقمي، حيث يختفون خلف هويات وهمية ومنصات وهمية، وهذا ما بات يعرف بظاهرة "الذباب الإلكتروني".
ثالثاً: تعريف الذباب الإلكتروني وأهدافه الخفية
الذباب الإلكتروني هو مصطلح يطلق على مجموعة من الحسابات الوهمية أو الأشخاص الذين يتخفون خلف هويات مستعارة على شبكة الإنترنت، ويستخدمون منصات التواصل الاجتماعي وأدواتها بطريقة ممنهجة ومنظمة لتحقيق أهداف معينة، غالبًا ما تكون هدامة ومخربة.
الهدف الأساسي للذباب الإلكتروني يتمثل في:
* التفرقة بين الناس: حيث يحاول هؤلاء الأفراد (الذين يتبنون قوميات، ديانات، أو طوائف مختلفة بشكل زائف ومضلل) زرع بذور الفتنة والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، مستغلين الخلافات لخلق انقسامات حادة.
* التأثير على شخصيات معينة وحرقها: يستهدف الذباب الإلكتروني حملات تشويه ممنهجة ضد قادة مهمين، شخصيات عامة مؤثرة، أو قادة رأي، سياسيين، فنانين، أو ناشطين، إعلاميين، أكاديميين أو علماء، بهدف الإساءة لسمعتهم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام، وصولاً إلى "حرقهم" إعلامياً.
* تمثيل رموز ومحاولة المساس بالدول: في حالات أكثر خطورة، قد يُستخدم الذباب الإلكتروني كأداة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وبث الشائعات التي تهدف إلى إثارة الفوضى والقلاقل، وبالتالي التأثير على الأمن القومي وزعزعة استقرار الدول.
* التضليل وتوجيه الرأي العام: يعمل على نشر معلومات كاذبة وأخبار مضللة (Fake News) على نطاق واسع، بهدف تزييف الحقائق وتوجيه الرأي العام نحو قناعات معينة تخدم أجندات خفية.
رابعاً: الفئات الأكثر استجابة للذباب الإلكتروني وكيفية إحداث الفتنة
إن أخطر ما يقوم به الذباب الإلكتروني هو قدرته على صناعة فتنة حقيقية بين فئات المجتمع. ويتم ذلك من خلال استهداف الفئات الأكثر عرضة للتأثر والتجاوب:
* فئة الشباب: بحكم استخدامهم المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي، وحماسهم، وربما قلة خبرتهم في التمييز بين المعلومات الحقيقية والمضللة، يصبحون هدفًا سهلاً للذباب الإلكتروني.
* الأشخاص ذوو الخلفيات الأيديولوجية أو الطائفية الحادة: يستغل الذباب الإلكتروني حساسيات هذه الفئات ويعزف على وتر المشاعر والعصبيات، مما يجعلهم أكثر استجابة للتحريض والتفرقة.
* الأشخاص الذين يفتقرون إلى مصادر معلومات موثوقة ومتنوعة: يعتمدون بشكل كبير على ما يرونه في وسائل التواصل الاجتماعي دون التحقق، مما يجعلهم عرضة للتضليل.
يقوم الذباب الإلكتروني بخلق الفتنة عن طريق:
* تضخيم الخلافات الثانوية: يأخذ خلافات بسيطة ويضخمها بشكل مبالغ فيه ليجعلها تبدو كأنها قضايا مصيرية تستدعي الانقسام.
* تأجيج الكراهية والعداوة: ينشر محتوى يحرض على الكراهية ضد فئة معينة، أو يشوه صورتها، أو يروج لأفكار سلبية عنها.
* اختلاق الأكاذيب والقصص المفبركة: يقوم بنشر قصص وهمية أو أحداث لم تقع، بهدف إثارة الغضب والشحن العاطفي بين الأطراف.
* التمثيل الزائف للهويات: كما ذكرنا، فإن أعضاء الذباب الإلكتروني يمثلون أحياناً طائفية أو عقيدة معينة، فينشرون باسمها رسائل متطرفة أو استفزازية بهدف إثارة ردود فعل غاضبة من الطرف الآخر، مما يؤدي إلى اشتباكات لفظية تتحول إلى واقع افتراضي من الفتنة.
ملاحظة هامة: في بعض الحالات، ومع تزايد تأثير الذباب الإلكتروني، قد يتحول عامة الناس، أو بعضهم، إلى "ذباب إلكتروني" دون وعي منهم. يحدث هذا عندما ينجرف الأفراد وراء الشائعات والأكاذيب، ويعيدون نشرها أو التفاعل معها بشكل مكثف، مما يساهم في نشر الفتنة والتضليل دون أن يكونوا جزءًا من شبكة منظمة، لكنهم يصبحون وقودًا لها.
خامساً: الذباب الإلكتروني: بشر أم روبوتات؟
الخطورة تكمن في أن هؤلاء العاملين ضمن شبكات الذباب الإلكتروني قد يكونون بشرًا حقيقيين يعملون ضمن خلايا منظمة، يتلقون أوامر وتوجيهات محددة لتحقيق أهداف معينة. وفي المقابل، قد يكونون عبارة عن روبوتات (Bots) مبرمجة سلفًا لأداء مهام محددة بكثافة عالية ودون تدخل بشري مباشر، مثل نشر عدد هائل من التغريدات أو التعليقات في وقت قصير. التمييز بينهما قد يكون صعباً، وكلاهما يشكل خطراً حقيقياً.
سادساً: مؤشرات الكشف عن الذباب الإلكتروني
قد يكون كشف الذباب الإلكتروني صعبًا، لكن هناك مؤشرات واضحة تساعد في التعرف عليه، وهي بمثابة إشارات معينة تكشف أن هذا الشخص ليس حقيقياً أو أنه جزء من حملة ذباب إلكتروني:
* النشاط المفرط وغير الطبيعي: تتميز حسابات الذباب الإلكتروني بنشاط مكثف ومبالغ فيه، حيث تقوم بنشر عدد هائل من المنشورات أو التعليقات في فترة زمنية قصيرة، أو إعادة تغريد محتوى معين بكثافة غير طبيعية.
* المحتوى المكرر والمنسخ: غالبًا ما يقوم الذباب الإلكتروني بنشر نفس الرسائل، أو التعليقات، أو التغريدات، أو الصور، مع اختلاف طفيف أو بدون تغيير على حسابات متعددة وبطريقة متطابقة، مما يدل على وجود برمجة مسبقة.
* التركيز الأحادي على موضوع معين: تتركز منشورات الحسابات المشبوهة على موضوع واحد أو شخصية واحدة، سواء بالمدح المبالغ فيه أو بالهجوم الشرس، دون تنوع في الاهتمامات أو المواضيع.
* غياب التفاعل الإنساني الحقيقي: يفتقر الذباب الإلكتروني إلى التفاعل البشري الطبيعي، فتعليقاتهم قد تكون آلية، أو لا تستجيب بشكل منطقي للردود، أو تفتقر إلى أي لمسة شخصية.
* البروفايلات الوهمية والمزيفة: غالبًا ما تستخدم هذه الحسابات صورًا شخصية غير حقيقية (صور عامة، صور مسروقة، أو صور تم توليدها بالذكاء الاصطناعي)، أو تكون معلومات الملف الشخصي قليلة جدًا وغير كاملة، وقد لا تحتوي على أي معلومات شخصية حقيقية.
* تاريخ إنشاء الحساب المفاجئ: عدد كبير من هذه الحسابات يتم إنشاؤها حديثًا وتنشط بشكل مكثف تزامنًا مع حملة معينة، ثم قد تختفي أو يقل نشاطها بعد انتهاء الحملة.
سابعاً: كيفية عمل الذباب الإلكتروني ولصالح من؟
تتمثل آلية عمل الذباب الإلكتروني في الاستفادة من خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي لزيادة انتشار المحتوى المضلل. فعندما يقوم عدد كبير من الحسابات بنشر أو التفاعل مع محتوى معين (بالإعجاب، التعليق، أو المشاركة)، فإن هذه الخوارزميات تزيد من ظهور هذا المحتوى، مما يعطيه مصداقية زائفة ويساهم في تضليل عدد أكبر من المستخدمين.
أما عن سؤال لصالح من يعملون؟ فالإجابة تتنوع:
* جهات مدعومة خارجيًا وقد تكون بمسميات داخلية: تسعى للتأثير على أحداث قائمة، انتخابات مثلاً، أو دعم سياسات معينة، أو دعم معارضة أخرى، أو لتشويه سمعة خصوم سياسيين.
* دول معادية: تحاول التدخل في شؤون دول أخرى لزعزعة استقرارها، أو إثارة الفتن الداخلية، أو تحقيق مصالح إقليمية.
* أفراد أو مجموعات متطرفة: تسعى لنشر أيديولوجيات معينة، أو تجنيد أتباع، أو الترويج لأفكار متطرفة.
* شركات أو كيانات تجارية: تستخدمه لأغراض الدعاية السلبية ضد منافسين، أو الترويج لمنتجاتها بشكل خفي، أو التأثير على سمعة علامات تجارية معينة.
المهم إنهم يعملون لتحقيق أجندات خاصة، غالبًا ما تكون هدامة وتتناقض مع مصالح المجتمع ومصلحة الوطن.
ثامناً: الحلول لمواجهة الذباب الإلكتروني: دور الفرد والمجتمع والمؤسسات
لمواجهة هذا الخطر المتنامي، يتوجب علينا جميعًا أن نكون على درجة عالية من الوعي واليقظة الرقمية. إليك بعض الحلول العملية:
* التحقق من المصادر والتفكير النقدي: قبل تصديق أي معلومة أو إعادة نشرها، تأكد من مصدرها. ابحث عن مصادر متعددة وموثوقة لتأكيد الخبر. لا تقبل كل ما تراه على الإنترنت كحقيقة مطلقة؛ استخدم عقلك وحلل المحتوى، واسأل نفسك: هل هذا الخبر منطقي؟ وما هي الأجندة المحتملة وراء نشره؟
* تجاهل وإبلاغ: إذا صادفت حسابًا مشبوهًا أو محتوى يحرض على الكراهية والتفرقة، فإن أفضل الحلول هي تجاهل هذا المحتوى وعدم التفاعل معه حتى لا تزيد من انتشاره (لا بالاهتزاز ولا بالنشر)، والتبليغ عن المشكلة لإدارة المنصة. هذا يساعد في حظر تلك الحسابات والحد من تأثيرها.
* دعم المحتوى الهادف: التفاعل الإيجابي مع المحتوى الموثوق والهادف الذي يعزز الوحدة والتسامح، يساعد على إيصال رسالة إيجابية أقوى من رسائل الذباب الإلكتروني.
* دور المؤسسات والجهات الرسمية: يتوجب على الحكومات والمؤسسات المعنية العمل على وضع قوانين وسياسات للتصدي لشبكات الذباب الإلكتروني، وملاحقة المسؤولين عنها.
تاسعاً: دور البيت والمدرسة في بناء الوعي
إن بناء ثقافة الوعي بمخاطر الذباب الإلكتروني يبدأ من أساسين مهمين في مجتمعنا: البيت والمدرسة.
* دور البيت (الأسرة): الأسرة هي الحاضنة الأولى للطفل والشباب، وعليها مسؤولية توعيتهم بمخاطر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. يجب على الأهل متابعة أبنائهم، تعليمهم كيفية التمييز بين المحتوى الصحيح والمضلل، وتشجيع الحوار المفتوح حول ما يتعرضون له على هذه المنصات.
* دور المدرسة (المناهج الدراسية): تلعب المدرسة دوراً محورياً في صقل شخصية الطالب وتزويده بالمعرفة. يجب أن تتضمن الدروس والمناهج المدرسية مواد تعليمية متخصصة حول الثقافة الرقمية، والأمن السيبراني، ومخاطر الذباب الإلكتروني، وكيفية التحقق من المعلومات. هذا يساهم في بناء هيئة ثقافية حصينة لدى الأجيال الجديدة، قادرة على التفكير النقدي، والتحليل، ومقاومة محاولات التضليل والفتنة التي يبثها الذباب الإلكتروني. فالمناهج يجب أن تركز على غرس قيم التسامح والوحدة الوطنية، وتفنيد الأفكار المتطرفة والمضللة، مما يجعل الطالب قادراً على أن يكون حارساً لذاته ولمجتمعه في الفضاء الرقمي.
عاشراً: دور الإعلام الحقيقي
إلى جانب أدوار الفرد والأسرة والمدرسة والمؤسسات الرسمية، لا يمكن إغفال الدور المحوري والهام للإعلام الحقيقي، القائم على المهنية والمصداقية والرسالة الهادفة. إن الإعلام الملتزم، الممنهج بطريقة محترمة، له دور بالغ الأهمية في توعية المجتمع بمخاطر الذباب الإلكتروني وكيفية التعامل معها. من خلال التحليل العميق، وتقديم الحقائق الموثوقة، وكشف أساليب التضليل، يساهم الإعلام الأصيل في بناء وعي جمعي قادر على التصدي لسموم الذباب الإلكتروني وحماية النسيج المجتمعي.
في النهاية، يبقى الوعي خط الدفاع الأول في معركة الفضاء الرقمي. وبالتعاون بين الأفراد، الأسر، والمؤسسات التعليمية، والإعلام الحقيقي، يمكننا بناء جيل واعٍ ومحصّن ضد سموم الذباب الإلكتروني. فالمجتمع الأردني، بما يتمتع به من ثقافة ووعي متجذر، هو ركيزة ثابتة في مواجهة هذه التحديات. حمى الله الأردن قيادةً وشعباً، ووفقنا جميعاً لما فيه خير الوطن.