نبض البلد - كلمة جلالة الملك أمام البرلمان الأوروبي: صوت ضمير الإنسانية وقيم العدل في زمن الانهيار الأخلاقي
بقلم: محمد نمر العوايشة
في واحدة من أجرأ الخطابات وأكثرها تأثيرًا في المحافل الدولية، وقف جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، أمام أعضاء البرلمان الأوروبي، متحدثًا بلسان أمة، وبضمير الشعوب المظلومة، ومدافعًا شرسًا عن القيم الإنسانية التي بدأت تتآكل في خضم الصراعات والمصالح. لم تكن الكلمة مجرد خطاب سياسي تقليدي، بل كانت شهادة تاريخية على ما وصل إليه العالم من انحدار أخلاقي، ونداءً عالميًا لاستعادة التوازن بين الحقوق والمصالح، وبين الإنسانية والمصالح السياسية.
لقد بدا جلالته، كعادته في مثل هذه المنصات العالمية، رجل دولة من الطراز الرفيع، يحترف مخاطبة الضمائر الحية بلغة متجردة من المجاملة، ومحصنة بقوة الموقف، مستندًا إلى الحق والعدالة والمبادئ الإنسانية، فكان صوته صريحًا لا يخشى التوصيف الدقيق للانتهاكات التي ترتكب ضد المدنيين، لا سيما في قطاع غزة، حيث وصف ما يجري من تجويع وقتل ممنهج بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي”، داعيًا إلى الكف عن الصمت والتواطؤ، ورافضًا أي تبرير أو تطبيع مع هذه الجرائم.
هذه الكلمة، التي لاقت احترامًا واسعًا داخل البرلمان الأوروبي وخارجه، أعادت للأذهان سلسلة من المواقف المشرّفة التي طالما تبناها جلالة الملك في الدفاع عن فلسطين، وعن حقوق الشعوب المضطهدة في مختلف المحافل. لم يكن هذا الخطاب استثناءً، بل كان امتدادًا طبيعيًا لمسيرة طويلة من الثبات على المبادئ، منذ سنوات الخطاب العربي العقلاني الذي تبناه الأردن بقيادة جلالة الملك، في وقت صمتت فيه أصوات كثيرة، أو ارتهنت لمصالحها الضيقة.
وليس خفيًا أن جلالة الملك لطالما حمّل المجتمع الدولي مسؤولياته تجاه معاناة الفلسطينيين، مؤكدًا أن السلام لن يتحقق ما لم تقم الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. هذا الموقف الثابت لم تهزه التحولات السياسية، ولم تنل منه الضغوط الدولية، بل ظل جلالته يجدد التأكيد عليه في كل مناسبة، مدعومًا بإرث الهاشميين في الدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، من منطلق الوصاية التاريخية والشرف الديني والسياسي.
ومن بين الرسائل العميقة التي حملها الخطاب الملكي، تلك الدعوة المخلصة لأوروبا، بأن تراجع ضميرها، وتستحضر القيم التي بُني عليها الاتحاد الأوروبي، وهي القيم التي جعلت من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، نموذجًا للسلام والمصالحة والتسامح. لقد خاطب جلالة الملك القادة الأوروبيين بلغة الندّ الشريك، لا بلغة المستعطف، مؤكدًا أن الأردن، ورغم تحدياته، سيبقى شريكًا موثوقًا، صوتًا للحق، وجسرًا للحوار بين الشرق والغرب.
ولم يقتصر الخطاب الملكي على الجانب السياسي، بل تعداه إلى الجانب القيمي والفلسفي، حين أشار جلالته إلى أن الحروب ليست فقط صراعات على الأرض، بل صراعات حول الرؤى والقيم التي ستشكل مستقبل البشرية. وحين قال جلالته إن الأمن الحقيقي لا يكمن في قوة الجيوش، بل في قوة القيم المشتركة، كان يعيد تعريف الأمن والاستقرار، بعيدًا عن منطق الهيمنة والغطرسة، وقريبًا من جوهر العدالة والشراكة.
وفي استعراضه للتاريخ، ذكّر جلالته بالعهدة العمرية، وبالوعد الهاشمي لأهل القدس، ليؤكد أن الدفاع عن المقدسات ليس موقفًا سياسيًا ظرفيًا، بل التزام ديني وتاريخي وأخلاقي، لا يضعف أمام العواصف، ولا يخضع للابتزاز.
وفي لحظة محورية من خطابه، قال جلالة الملك: "إن ما يحدث في غزة اليوم يتنافى مع القانون الدولي والمعايير الأخلاقية وقيمنا المشتركة”، ليضع العالم أمام صورته الحقيقية، صورة مشوهة بفعل التخاذل الدولي، ومشروخة بفعل الانحياز المفضوح، ومرعبة حين تُصبح المجازر مشهدًا يوميًا لا يحرّك ضميرًا.
لقد كانت كلمة جلالة الملك بمثابة جرس إنذار أخلاقي للعالم، ودعوة صريحة إلى استعادة إنسانيتنا الضائعة في أروقة السياسة الدولية. وكانت شهادة عزّ للأردن، بلد المبادئ، وقلعة الاعتدال، ومركز الثقل العربي في زمن التفكك والتمزق.
ختامًا، ليس غريبًا أن يُستقبل خطاب جلالة الملك بهذه الحفاوة، ولا أن يُسجّل التاريخ هذا الموقف الناصع في سجله؛ فجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين لم يكن يومًا متفرجًا على الألم العربي، بل كان دومًا في مقدمة من يواجهون الظلم، ويدافعون عن كرامة الإنسان، حيثما كان، وبأي لغة ممكنة.
عاش الأردن حرًا عزيزًا، وعاش جلالة الملك صوتًا لا يلين للحق، وراعيًا أمينًا للثوابت والمبادئ والقيم في عالم تتنازعه العواصف.
بقلم : محمد نمر العوايشة