نبض البلد - قانون تخيير المحضون في الأردن: الخيار الزائف.. هل يعاقب القانون طفلاً؟
د. دانا خليل الشلول
يهدف القانون إلى تحقيق العدالة، لكن في بعض الأحيان قد تُحدِثُ نصوصاً قانونيةً بنيّةٍ حسنة أضراراً جسيمةً على الفئة التي تسعى لحمايتها، هذا هو التحدي الجوهري الذي يطرحه قانون تخيير المحضون عند بلوغه سن الخامسة عشرة في الأردن، فللوهلة الأولى، قد يبدو هذا القانون تجسيداً لمبدأ تمكين الطفل ومنحه حق الاختيار، لكن الواقع يحمل صورة مختلفة تماماً، إنّه ليس مجرد "خيار" يُمنح لمراهق في مرحلة حساسة من حياته، بل هو عبء نفسي واجتماعي هائل يُلقى على كاهله، ويفتح الباب أمام دوامة من التحديات التي تهدد استقرار الأسر ومستقبل أبنائنا. يهدف هذا التحليل النقدي إلى تسليط الضوء على هذه القضية أمام المشرِّع ورجال القانون، مدعومًا بالحقائق والخبرات، في دعوةٍ جريئةٍ لإعادة النظر في هذا القانون بما يضمن مصلحة المحضون الفضلى ويُعزز استقرار الأسرة ومستقبل أبنائنا.
ومن هنا، يظهر الأثر النفسي والاجتماعي للتخيير على المحضون بوضوح، فبينما يضع قانون التخيير طفلاً في سن الخامسة عشرة، وهي مرحلة المراهقة المليئة بالتقلبات والتحديات، يجد هذا الطفل نفسه أمام قرار مصيري: الاختيار بين الأم والأب، وهذا ليس مجرد اختيار، بل هو إجبار على الانحياز لطرف ضد الآخر، مما يخلق صراع ولاءٍ عميق داخل نفس الطفل. فيما تشير العديد من الدراسات النفسية المتخصصة في آثار الطلاق إلى أن إجبار الطفل على اتخاذ مثل هذا القرار يزيد بشكل كبير من مستويات القلق والتوتر لديه، على سبيل المثال، وجدت دراسة نشرت في مجلة "Journal of Family Psychology" أن الأطفال الذين يُجبرون على اختيار أحد الوالدين بعد الطلاق يُظهرون مستويات أعلى بـ (20%) من الضغوط النفسية مقارنة بأقرانهم الذين لم يُعرّضوا لهذا الموقف، وقد يؤدي هذا الصراع إلى الشعور بالذنب تجاه الوالد الذي لم يُختر، وقد يتطور كذلك إلى مشاكل سلوكية أو حتى اكتئاب، خاصة وأنَّ الطفل في هذه السن يكون لا يزال بحاجةٍ ماسةٍ إلى دعم نفسي وتوجيه، وليس إلى وضع ثقل قرار مصيري على كاهله، فهذا الموقف قد يدفع الطفل أيضاً إلى الوقوع في بند العقوق بشكل غير مباشر؛ فمهما كان اختياره، سيشعر بالذنب تجاه أحد الوالدين، مما يهدد بتقويض روابط الدم والعلاقات الأسرية على المدى الطويل، كما أنَّ التخيير في هذه السن الحساسة قد يُحوّل المحضون إلى أداة للتلاعب بالوالدين، إذ يسعى كل طرف لاستمالة الطفل لصالحه، سواء بالوعود المادية أو العاطفية، أو حتى بزرع مشاعر سلبية تجاه الطرف الآخر، كمت أنَّ هذا الاستغلال العاطفي قد يُعلّم الطفل سلوكيات سلبية مثل الابتزاز أو التلاعب للحصول على مكاسب شخصية، مما يضر بمصلحته على المدى البعيد، فكما تُخبرنا بعض التقارير من المحامين، بأنّه قد يصل الأمر إلى طلبات مالية تفوق قدرة أحد الوالدين بهدف "كسب" اختياره.
أما من الناحية العملية، تمنح الحضانة في السنوات الأولى من عمر الطفل للأم في الغالب؛ فعلى سبيل المثال، تشير إحصائيات دائرة قاضي القضاة في الأردن إلى أن أكثر من (80%) من قضايا الحضانة الأولية تُمنح للأم، بينما يظل دور الأب مقتصراً على النفقة والرؤية في معظم الأحيان، وهذا يعني أنَّ الأب قد يُحرم من المشاركة الفعالة في تربية أبنائه خلال سنوات التكوين الحرجة، وعندما يبلغ الطفل سن التخيير، يكون قد قضى معظم حياته تحت رعاية الأم، فهل من العدل أن يُجبر الأب على "منافسة" الأم على حضانة ابنه أو ابنته في سن المراهقة، بعد أن كان دوره محدوداً لسنوات؟ هذا التهميش لدور الأب يضعف الرابط الأبوي ويزيد من شعوره بالظلم، خاصة وأن الأبناء يظلون يحملون اسم الأب وعشيرته، ففي مجتمعاتنا ذات الطابع العشائري، يظل الأب هو عماد الأسرة من الناحية الاجتماعية والعشائرية، فلو حدث أي طارئ -لا قدر الله-؛ كجريمة أو مشكلة كبرى، فإن العطوة العشائرية والمسؤولية تقع على عاتق عشيرة الأب، وكذلك في مناسبات الخطوبة والزواج، تُطلب الجاهة من عشيرة الأب، هذه الحقائق الاجتماعية تؤكد أنَّ الأب هو السند الأساسي، وأن حضانة الأب في سن معينة ليست مجرد حق، بل هي جزء لا يتجزأ من هُوية الطفل واستقراره الاجتماعي.
أما بشأن الوقوف على الجانب الديني ورأي الشريعة الإسلامية، نجد أنَّ التوجه الغالب في المذاهب الفقهية، مثل المذهب الحنفي الذي يتبعه مئات الملايين من المسلمين حول العالم (كمثال: إندونيسيا التي يزيد عدد سكانها المسلمين عن (230) مليون نسمة، وأغلبهم يتبع المذهب الحنفي، وتركيا، ودول في آسيا الوسطى)، ينص على انتقال حضانة الذكر للأب بعد سن السابعة، والأنثى بعد سن التاسعة، وهذا ليس اعتباطاً، بل يستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أؤمروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر "، مما يشير إلى أهمية دور الأب في توجيه الأبناء في هذه المرحلة العمرية نحو المسؤولية الدينية والاجتماعية، كما أنَّ هذا التوجه ليس محصوراً في كتب الفقه، بل تم تطبيقه في قوانين الأحوال الشخصية لعدد من الدول، وقد أظهرت هذه التطبيقات نتائج إيجابية ملموسة.؛ ففي العراق، يُعدّ النموذج العراقي مثالاً قوياً في هذا السياق؛ فبعد تعديل قانون الحضانة لمنح الأب حق الحضانة للذكر عند سن السابعة، وللأنثى عند سن التاسعة دون تخيير الطفل، حيث شهدت البلاد انخفاضاً ملحوظاً في معدلات الطلاق، ووفقاً لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء العراقي، انخفضت حالات الطلاق في العراق من حوالي (24) ألف حالة سنوياً قبل عام (2013) إلى ما يقارب (6) آلاف حالة سنوياً في السنوات التي تلت تطبيق القانون الجديد، وهذا الانخفاض الدراماتيكي الذي يمثّل (75%) في عدد حالات الطلاق يشير بوضوح إلى أن تعديل قواعد الحضانة يمكن أن يكون رادعاً قوياً للطلاق، حيث أصبحت الزوجة تفكر ملياً قبل طلب الطلاق لعلمها بأنها قد تفقد حضانة أطفالها في سن مبكرة، و
كما اتجهت الكويت أيضاً في تعديلاتها الأخيرة على قانون الأحوال الشخصية نحو تعزيز دور الأب؛ حيث نصت التعديلات على انتقال حضانة الذكر للأب بعد سن السابعة (7)، والأنثى بعد سن الخامسة عشرة (15)، دون منح الطفل حق التخيير في هاتين السنتين، فيما تهدف هذه التعديلات التي دخلت حيز التنفيذ في السنوات الأخيرة إلى منح الأب دوراً فاعلاً في تربية أبنائه في مراحل عمرية حرجة، وتقليل مساحة التلاعب العاطفي والنفسي على الأطفال.
وفي المملكة العربية السعودية، في نظام الأحوال الشخصية السعودي الجديد الذي صدر في عام (2022)، تُمنح الحضانة للأم في السنوات الأولى، لكنها تنتقل للأب بعد سن معينة (على سبيل المثال، للذكر عند سن (7) سنوات والأنثى عند (9) سنوات) ما لم توجد مصلحة للمحضون تستدعي خلاف ذلك، أما حق التخيير فيُمنح في سن متأخرة جداً (من 15 إلى 18 عاماً)، وبشروط صارمة تضمن مصلحة المحضون الفضلى، مما يعكس توجهاً لتقليل الاعتماد على تخيير الطفل في المراحل المبكرة من حياته، وتلتزم العديد من الدول الأخرى التي تعتمد على المذهب الحنفي، والتي تعتمده في قوانين الأحوال الشخصية، بمبدأ انتقال الحضانة للأب بعد بلوغ الذكر سن السابعة والأنثى سن التاسعة، وهذا يعكس إجماعاً فقهياً واسعاً حول هذا المبدأ الذي يرى أن هذه السن هي الأنسب لتدخل الأب في تربية الأبناء وقوامته.
وبناءً على هذا التحليل، لعله يصبح من الضروري للمشرّع ورجال القانون إعادة النظر في قانون تخيير المحضون، خاصةً وأنَّ هذه التوصيات لا تهدف إلى فرض حق الحضانة للأم أو الأب بشكل مطلق أو الانحياز لطرف على حساب الآخر، بل تسعى إلى إيجاد آليةٍ أكثر عدلاً ومرونة، فالهدف هو بناء نظام قانوني أكثر توازناً يخدم مصلحة الطفل الفضلى بمعزل عن التحيزات الجندرية، ويأخذ بعين الاعتبار الظروف الفردية لكل حالة، ينبغي أن يكون المعيار الأساسي في جميع القرارات المتعلقة بالحضانة هو مصلحة المحضون الفضلى والقدرة على احتواء الطفل وتربيته نفسياً واجتماعياً ودينياً وأخلاقياً، وهذا المعيار يتجاوز مجرد العمر أو الجنس، ويأخذ بعين الاعتبار البيئة الأكثر استقراراً وصلاحاً للطفل، فليس بالضرورة أن تكون الأم هي الطرف الأفضل دائماً للحضانة، ولا الأب هو الطرف الأسوأ في جميع الأحوال، كما يتطلب هذا تفعيل دور الخبرة القضائية بالاستعانة بالأخصائيين النفسيين والاجتماعيين لتقديم تقييمات موضوعية وشاملة لقدرة كل من الوالدين على توفير هذا الاحتواء والتربية، وهذا يعني أن التركيز سيكون على من هو الطرف الأقدر على توفير الاستقرار والدعم الشامل للطفل، بدلاً من إلقاء عبء الاختيار على المحضون، فيما أنّه من الضروري جداً إطلاق حملات توعية مجتمعية بأهمية دور كلا الوالدين في حياة الأبناء بعد الطلاق، والتأكيد على أن الهدف الأسمى هو بناء جيل سليم نفسياً ومتوازن اجتماعياً، كما يجب أن تركز هذه الحملات على أنَّ الطلاق ليس نهاية الأبوة أو الأمومة، وأن المسؤولية المشتركة للوالدين تجاه أبنائهم يجب أن تستمر، مع التأكيد على ضرورة التعاون بدلاً من النزاع، وأن دور الأب لا يقل أهمية عن دور الأم في بناء شخصية الأبناء.
وفي الختام، إن قضية تخيير المحضون ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي قضية اجتماعية وإنسانية تمس صميم بناء الأسرة والمجتمع، حيث إنَّ إعادة النظر في هذا القانون، مع الأخذ بعين الاعتبار الآثار النفسية على الأطفال التي تؤكدها الدراسات، والأدلة الشرعية، والتجارب الدولية الناجحة المدعومة بالنتائج، أصبح ضرورة ملحة. والهدف والغاية هنا ليس تقييد حقوق أحد الوالدين، بل بناء نظام قانوني يحمي مصلحة الطفل الفضلى من خلال تحديد من هو الأقدر على احتوائه وتربيته، ويعزز استقرار الأسرة، ويقلل من تداعيات الطلاق السلبية على الأجيال القادمة.