نبض البلد - بقلم: لطيفة محمد حسيب القاضي
في زمن استُبيحت فيه الأرض والكرامة، وسط عواصف الجباية العثمانية وبطش القادة المتغطرسين، يطل علينا الكاتب حامد مغرم بروايته اللافتة "الأسراب السبع"، كأنها وثيقة نضالية تنبض بالبطولة، وتكتب بالدم والحرف والشعر معًا.
هذه الرواية ليست مجرد عمل سردي، بل ملحمة عربية تمشي على قدمين. تتنقل بين القرى والسفوح، بين الخيام ومضارب العز، لترسم صورة مقاتل عربي لم يرضَ بالذل، ولم يُغره بريق السلطة، بل نذر روحه لتحرير شعبه من أغلال "الطرابيش الحمر".
أبو دهيبة.. البطل الذي تشهق به الحكاية:
في قلب الرواية، يقف أبو دهيبة بن جري، قائد الأسراب السبع، فارس من زمن الفرسان، رجل بين الحلم والتخطيط، بين الوجدان والفكر العسكري، يجمع حوله رجالًا من طراز نادر، ويمضي نحو الثورة بهدوء الصقر الذي يرى أكثر مما يصرخ.
هو ليس زعيم قبيلة فحسب، بل رمز للكرامة حين تصير سيفًا، وحين تصير خطة، وحين تصير طعنة في خاصرة المستبد.
المرأة في الرواية: عليا.. الحب حين يكون وطنًا:
ليست "عليا" مجرد زوجة القائد، بل وجدان الرواية، بوصلة الحب، وضوء البيت حين تعتم النكبات.
في حديثها، شعر وانكسار وقوة أنثى تعي معنى أن تكون سندًا لرجل يحمل جبالًا على كتفيه. تمثل عليا الروح الناعمة في زمن السيوف، وهي تقول في لحظة إنسانية موجعة:
"يا ساكن القلب لا تبرح نواحيه... فأنت من نبضه بالقرب تحييه"
حين تصير الفكرة جبهة:
الرواية تبني نموذجًا فريدًا من المقاومة: أسراب من الفرسان، لكل منهم طابعه ومهامه، يتوحدون تحت راية "الكرامة"، ويخططون لكل هجوم بمزيج من السرية والدهاء، وكأنهم جسد واحد بروح سبعة.
بينهم الفارس المجنون الشجاع "علي الحربة"، والحكيم الداهية "عبد الله أبو حشرة"، والعقل المدبّر "سلمان بن نامي"، وغيرهم ممن نسجوا خيوط الغزوات بأسلوب مسرحي مدهش.
الاستبداد حين يتمثل في صورة إنسان:
يظهر العثماني في الرواية لا كرمز سلطوي فقط، بل كعدو يتقن القهر.
"شوباش باشا" ليس قائدًا تقليديًا، بل وحشٌ بوجه بشري، ينهب الأرض، ويستبيح الأعراض، ويُسكن الرعب في أفئدة الناس.
لكن الرواية لا تكتفي بلعنه، بل تخلق له خصمًا يوازيه قوة ودهاء: أبو دهيبة وسربه.
اللغة بين وهج الشعر ودقة السرد:
لغة الرواية جزلية، فخمة، مشبعة بروح الشعر العربي.
هي سردية لكن تحمل في طياتها لهيب القصيدة، ودفء الحديث الشعبي، وشاعرية الوصف التي تحوّل مشهدًا بسيطًا كغليان القدر على الأثافي إلى مشهد كامل الدلالات الروحية والعاطفية.
الرمز والرمزية.. الطير والسرب، النار والحيلة:
تتكئ الرواية على رموزٍ قوية:
الأسراب: رمزية جماعية تقاوم فرادى لكنها تطير معًا.
الرمح والشلفة: امتداد لجسد الفارس، لكنها أيضًا امتداد لهوية تُقاتل.
سوق السبت: مسرح للثأر ولتظهير قسوة العدو.
رواية "الأسراب السبع" ليست مجرد قصة من الماضي، بل صرخة أدبية في وجه الظلم، ودعوة للحرية مطرّزة بعرق الأبطال ودمائهم.
إنها تكريم لرجالٍ طاروا كالعصافير في سرب المجد، وسقطوا كالشهداء على أرض لا تعرف النسيان.
هي حكاية، لكنها ليست كل الحكاية… بل هي عِقد من المعاني يرصّعه الشرف، وتوقّعه يد كاتب عرف كيف يمنح السرد قلبًا، والبطولة قافية.