نبض البلد -
بعض الأشخاص لا يحتاجون إلى تمجيدٍ مصطنع، ولا إلى ضجيجٍ إعلامي… لأن ملامحهم تكفي، وسيرتهم تتكلم عنهم بأفصح بيان.
ومن هؤلاء، يبرز صبري ربيحات، لا كوجهٍ معروف فحسب، بل كنموذجٍ وطني نقيّ، يُلخّص العصامية بصدق، ويعيد تعريف التواضع برُقيّ.
تشرفتُ بزمالة معالي صبري ربيحات في الأمن العام، وهناك عرفتُ رجلًا لا يُشبه إلا نفسه… مزيجًا نادرًا من الجدية العملية والهدوء العميق، يعمل بإتقان، ويحيا بقلبٍ يُجيد الإصغاء، ويحتوي الناس كما لو أن صدره أُعدّ ليكون ملاذًا لقلوبهم.
لم يكن حصوله على الدكتوراه في علم الاجتماع مجرّد إنجاز أكاديمي، بل تتويجًا لمسيرة اجتهاد حقيقي، ومفتاحًا لفهم المجتمع من جذوره.
كان يرى في المعرفة مسؤولية، وفي الفكرة طريقًا للإصلاح، لا ترفًا للنخبة.
تقلّد معاليه أكثر من منصب وزاري، منها وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية لمرتين، ومرة ثالثة وزارة الثقافة، فكان في كليها نموذجًا للمسؤول القريب، المُنصت، الذي لا تفصله الألقاب عن نبض الناس، ولا تقطع الأبواب صِلته بهم.
ولأنه لا تُغريه الألقاب، بقي كما هو: بسيط المظهر، عميق الأثر، حقيقيًّا في حضوره، نقيًّا في علاقاته… رجلًا لا يتصنّع القرب، بل يعيشه.
كما كانت له تجربة فريدة في العمل الإنساني على المستوى الدولي، حين عمل مستشارًا للمقرّر الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الإعاقة.
وهناك، حمل صوته كما يحمل فكره دائمًا: منحازًا للكرامة الإنسانية، ومؤمنًا بأن العدالة لا تكتمل ما لم تشمل الجميع، لا سيما أولئك الذين اعتاد العالم أن يضعهم في الهامش.
هو ابن "عيمه”، من محافظة الطفيلة الشمّاء، ابن عشيرة الربيحات… من الناس الطيبين، ربع الشهامة والكرم، الذين تُعلّمك ملامحهم معنى الأصل، وتُربّيك مجالسهم على احترام البذل والوفاء.
ظلّ كما كان: يعرف الناس واحدًا واحدًا، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، يجيب هاتفه بلا حواجز، ويبتسم بعفويّة تُشعرك أنه جارك، لا وزيرك.
لكنه لم يكن "اجتماعيًّا” بالمعنى السطحي، بل صاحب رؤية تُترجم على الأرض، وفكرٍ واسعٍ لا ينغلق، وثقافة تتعدّى التخصّص لتلامس هموم الناس وتطرح أسئلتهم الحقيقية.
ولأن الكلمة عنده مسؤوليّة، حملها إلى الشاشات والبرامج، متحدّثًا بلغةٍ صادقة، تنبع من القلب وتصل إلى القلب، بلا تكلّف ولا تصنّع.
كانت إطلالاته الإعلامية درسًا في العمق المُبسّط، حيث تُصبح المفاهيم السوسيولوجية أداةً لفهم المجتمع لا للتعالي عليه.
وحين يتكلّم، تُحسّ أنك أمام رجلٍ قرأ كثيرًا، وعاش أكثر، وعرف أن الفكر لا يكون نافعًا ما لم يُلامس واقع الناس.
وإن سألت عن عمق انتمائه، فلن تجد رجلًا يعرف وطنه كما يعرفه صبري ربيحات:
يعرفه لا من مكاتب العاصمة ولا من تقارير النخبة، بل من تضاريسه الحقيقية… من قراه وبواديه، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه.
يمشي في تفاصيله كما يمشي في ذاكرته… لا تتيه عليه لهجة، ولا تغيب عنه معاناة، ولا يمرّ به اسم مكان إلا وله فيه معرفة أو أثر.
هو رجلٌ يُحبّ الناس ويحبّونه، لأنّه منهم، ولأنه لم يتخلَّ يومًا عن صدقه أو تواضعه.
طاقته الخلّاقة لا تنضب، ورؤيته لا تتجمّد في قوالب، فهو دائم البحث، دائم السعي، كأنّه يؤمن بأنّ الوطن لا يُبنى إلا بالأفكار الحيّة، والضمائر التي لا تَنعَس.
صبري ربيحات ليس اسمًا عابرًا في قائمة المناصب، بل روحٌ وطنيّة صادقة… من أولئك الذين يتركون أثرًا في وجدان الأوفياء، ونستشهد بسيرتهم حين نعلّم أبناءنا كيف يكون الانتماء… وكيف يُصنع الأثر.
اللهم بارك له في علمه وعمره وأثره، ووفِّق من سار على دربه لخدمة الوطن بالصدق والإخلاص.
— من صديقٍ عرفه عن قرب، فشهد له لا عليه.
اللواء المتقاعد محمد بني فارس