نبض البلد -
ولدي معاذ…
كأن الزمن شاء أن يعيدني إليك بطريقته القاسية،
فحضرتُ بالأمس مراسم تخرّج دفعة جديدة من طيّاري سلاح الجو الملكي البواسل ….
المكان ذاته، المهابة ذاتها، المراسم بذات النظام والدقة، لكنك لست هناك.
وحدها روحي كانت تُشير إليك في كل ركن، كما لو أن الذكرى تهمس: "كان هنا.”
عدتُ بقلبي إلى عام 2004…
إلى يوم تخرّجك وكنت قائدًا للمراسم، تتقدّم الخريجين بثبات النسر.
أتذكّر كيف بدا صدرك مرفوعًا، وخُطاك صلبة كأنك خُلقت لهذا الدور.
كان جلالة الملك عبدالله الثاني، حفظه الله، يزين صدرك بجناح الطيارين ،
ثم ينادى باسمك مرة أخرى لتتسلّم جائزة "قائد المراسم”…
ولم أكن أعرف أن لحظة كهذه قد تُختزل فيها حياة بأكملها.
يا معاذ، لم أكن أصفّق حينها فحسب…
كنت أرتجف من الفخر، من هيبتك، من تلك النظرة الأخيرة التي رمقتني بها وأنت تبتسم، كأنك تقول: "ها قد وصلتُ، يا أبي.”
واليوم… جلستُ في مقاعد الاحتفال ذاتها،
لكن يدي المرتجفة لم تصفّق.
كنت أضمّها إلى صدري،
أكتم بها وجعًا نائمًا أيقظته خطوات الخريجين،
وكلما مرّ أحدهم، تساءلتُ: هل بينهم من يشبهك في العينين؟ في الهامة؟ في التحيه العسكريه ؟
لم يكن الأمر سهلاً،
أن أراك في ملامحهم ولا أجدك في الصف
وأن أسمع أناشيد الوطن ولا يرتفع فيها صوتك.
في عام 2016، مضيتَ شهيدًا يا ولدي وتركتني عند حافّة كل ذكرى،
كل حفلٍ بعدك صار سؤالًا مؤلمًا: ماذا لو كنتَ هنا؟
وكل نشيدٍ وطنيّ أصبح نداءً خفيًّا لروحك: قُمْ من الغياب لحظة فقط، لأقول لك كم أفتقدك.
لم أتكلّم كثيرًا…
من يملك لسانًا حين يفيض القلب؟
كلّ ما فيّ كان يحدّق نحو تلك البقعة التي وقفتَ عليها ذات يوم…
وأنت ترفع يدك لتحية الوطن، وكنتَ يومها تحيي قلبي.
يا أبا هاشم،
إن كانت الأوسمة تُمنَح للأحياء،
فإن شهادتك الأسمى كُتبت في سجل السماء حين ارتقيت شهيدًا.
اللهم إن في القلوبِ جراحًا لا يراها سواك،
فاجبرها بلُطفك، وأغثها برحمتك،
وارزق كلّ موجوعٍ عزاء،
وكلّ قلبٍ مُنهك… سلامًا يُشبه رضاك
رحمك الله يا شطر نفسي ،
يا من علّمتني كيف يكون الفخر مؤلمًا،
وكيف تشتبك الرجولة بالحُزن دون أن تنهزم.
أسأل الله أن يجعل لك في الفردوس مقامًا،
وأن يجعل كل دعائي إليك جناحًا،
وكل دمعةٍ ذُرفت عليك رجاءً لا يُردّ.
— من أبٍ يكتب ليُبقيك حيًّا في ضمير الأيام.
اللواء المتقاعد محمد بني فارس