نبض البلد - م . ابراهيم العوران
تنقسم الأحزاب في إسرائيل بين أحزاب يمينية محافظة وأحزاب وحركات دينية متطرفة وأحزاب يسارية تقدمية وعماليّة. وصحيح أن الأحزاب في الكيان الصهيوني لا تختلف كثيراً فيما بينها على المبادئ العامة، وتندرج جميعها تحت الأيدولوجيا الصهيونية الاستعمارية التوسعية، إلا إنّ هناك اختلاف وانقسام بين هذه الأحزاب في قضايا معقدة مثل الهوية والبرنامج الاقتصادي، وهو ما قد ظهر بوضوح في أزمة التعديلات القضائية العام المنقضي، والاحتجاجات ضد قانون قومية الدولة اليهودية في العالم ٢٠١٧، وقد شكلت العقود الأولى لقيام دولة الكيان سيطرة ممتدة لأحزاب اليسار ممثلةً بحزب العمل، لتبدأ أولى فصول اليمين بالسلطة متأخرةً قليلا.
ففي العام ١٩٧٧ نجح تكتل اليمين المتمثل في رئيس الوزراء مناخيم بيغن بكسر سيطرة ممتدة لليسار على السلطة.
ويمكن قراءة استراتيجية اليمين الصهيوني بالتحكم بالسلطة والاستحواذ على أصوات الناخبين، بأنها كانت قائمة على مرتكزات رئيسية تمثلت بتضخم الخطاب اليهودي الديني، وعقدة التخويف، والاستثمار بإشكالية الأمن القومي اتباعاً لنظرية القلعة التي كان نتنياهو أنجح السياسين في استغلالها عبر تاريخ دولة الاحتلال، وقد ارتكز عليها للبقاء لأطول مدة ممكنة في السلطة.
هذه النظرية التي تقوم على أساس وجود عدو خارجي قد يكون حقيقياً أو مصطنعاً يشكل تهديداًوجودياً يستدعي استجابة طارئة بتوحيد القاعدة الشعبية، والقفز عن المشاكل الداخلية والتماسك لمواجهة هذا الخطر الداهم، وهذا كما سبق وأشرنا أنّ نتنياهو استثمر به وقد نجح به، والدليل بقاءه في السلطة وكسح معارضيه. وانطلاقاً من هذه النظرية قتلوا اسحق رابين، رابين الذين وقع اتفاقية سلام أوسلو ووادي عربة، ففي القناعة اليمينية الداخلية هم يحتاجون إلى الصراع من أجل البقاء أكثر من الحاجة إلى السلام.
لقد شكل السابع من اكتوبر ونجاح المقاومة في اجتياز الجدار الفاصل والدخول إلى عمق المستوطنات هدمًا جزئياً لنظريّة نتنياهو التي طالما قام بترويجها بأنّ حكومته هي الأقدر على تأمين الحماية للشعب اليهودي داخل الدولة المُحصّنة. هذا التحدي الذي حاول نتنياهو وحكومته المتطرفة تحويله إلى فرصة عبر عودة الحديث عن التهجير القسري بارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية، أو التهجير الناعم عبر خلق ظروف على الأرض تستحيل معها الحياة، فيظهر اليوم جليًا أن خطة نتنياهو للبقاء في السلطة تكمن بتهجير الفلسطينيين في غزة نحو مصر ويتبعها تهجير أهل الضفة نحو الأردن، ويبدو أن الأمر قد حسم نحو التهجير الناعم لأسباب تتعلق بالموقف الأردني والمصري الرافض للتهجير، بالإضافة إلى الضغط الدولي على حكومة الاحتلال.
ومن يقرأ شخصية نتنياهو جيداً يدرك أنه مسكون بهاجس السلطة والبقاء بها، والسعي لحفر اسمه في سجل الرموز لدولة الكيان ليشترك مع هيرتزل وبن غوريون وغولدا مائير في إحداث النصر التاريخيّ للشعب اليهودي. ولكن السابع من أكتوبر شكّل ضربة موجعة لطموح نتنياهو، فكان رده شن الهجوم المسعور على المدنيين في غزة بحجة السعي لإنهاء المقاومة، وقبل السابع من أكتوبر كان يواجه نتنياهو معارضة شديدة على خلفية سعي حكومته لتقليص صلاحيات المحكمة العليا، وعدد من قضايا الفساد المرفوعة بحقه، فيدرك نتنياهو أنّ عدم تحقيق انتصاره تاريخي في غزة سيعني بكل شكل ليس نهاية حياته السياسية وحسب، وإنما قد يواجه سيناريو السجن، فهو يسعى من خلال هذه الحرب المسعورة على المدنيين إلى كسب ثقة ناخبيه مرة أخرى وأن يثبت لقاعدته المتطرفة أنه الرئيس الاسرائيلي الأكثر إجراماً.
ومن يتتبع المشهد الداخلي في دولة الكيان خلال العقد الأخير، يلحظ الانزياح الكبير لحكومة اليمين ونتنياهو نحو التحالف مع التيارات الدينية والمستوطنين، وقد نجحت هذه الحكومات من خلال التوسع في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، إلى تحقيق شبه توازن في المعادلة الديموغرافية التي شكلت هاجساً عميقاً لحكومة الاحتلال بعد عودة التفوق العربي به، ومما يشار إليه في سياق تحالف اليمين المحافظ مع التيارات الدينية المتطرفة، منح صلاحيات بناء المستوطنات لوزير المالية المتطرف سموتريش، وتحويل صفة الاستخدام لبعض أراضي الضفة الغربية، مما شكل خطوة كبيرة بالتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وتسليح المستوطنين من قبل بن غفير الأكثر تطرفًا.
إذن ما أريد قوله هنا، أن نتنياهو بحكومته الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الكيان، وبشخصيّته الجائعة للسلطة، عمل على تشوهات عميقة في بُنى ومؤسسات دولة الكيان، وفشله الذريع في السابع من أكتوبر ، شكل له تهديداً وجودياً، لذلك يحاول ويسعى لتحويل هذا التهديد إلى فرصة واستغلال ما جرى في السابع من أكتوبر بالتحديد لتنفيذ مخططات قديمة جديدة بتهجير الفلسطينين، والقضاء على أذرع محور المقاومة في المحيط العربي، وقد اتضح ذلك من خلال سعيه لتوسع الحرب وفي استهدافه القنصلية الإيرانية شاهداً على عطش الرجل باندلاع الحرب الإقليمية، فإن لم يتمكن من إشعال الحرب الإقليمية، فإطالة عمرها في غزة، وأنّ تحقيق النصر بالتالي( من وجهة نظره) سيعني له إنقاذ نفسه وتاريخه ومستقبله السياسي؛ أي إنّ هذه الحرب بالأهداف التي تحملها، تمثل مسألة وجود ومصير لنتنياهو والصف القديم من اليمين، ومن خلال هذا نستطيع القراءة والتنبؤ بسلوكه في المراحل القادمة.
ولكن هذه المخططات اليمينيّة بما تحمله من تطرف، بدأت تمثل حرجًا للإدارة الأمريكية، وتحملهم فاتورة باهظة لا يرغب الأمريكي في تحملها، وتتناقض مع السياسة الأمريكية لإدارة الصراع في الشرق الأوسط، ما قد يؤدي إلى استغناء أمريكي وفي الحزبين عن اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو والبحث من داخل اسرائيل عن نخب جديدة تحمل رؤية للحل تتوافق مع الاستراتيجية الأمريكية في إدارة الصراع، ودعمها من أجل ضمان استمرار رعاية المصلحة الأمريكية في المنطقة.