من رؤى جلالة الملكة رانيا العبدالله يُصاغ وعي الوطن من طباشير المعلم وأحلام الطلبة

نبض البلد -

 بقلم الدكتور: محمد طه العطيوي 

حين تتحدث جلالة الملكة رانيا العبدالله عن التعليم، فإنها تتحدث بلغة الإيمان العميق بأن التعليم هو جوهر بناء الإنسان، وبذرة النهضة التي تثمر في ضمير الوطن قبل مؤسساته. كلماتها تأتي من قلب أم ترى في كل طفل مشروع وطن، وفي كل معلم نواة للتغيير.

تقول جلالتها: "علينا القيام بما هو أفضل لجميع أطفالنا، لكل فتاة وشاب في أي عمر، فذلك حقهم، وإعطاؤهم ذلك مسؤوليتنا."

كلمات تفتح باب الوعي على حقيقة أن التعليم مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون مؤسسية أو إدارية، وأن الأمم التي تهمل تعليم أبنائها تهمل كرامتها ومستقبلها معاً.

في فكر جلالتها، التعليم ليس امتحانات ولا شهادات، بل بوابة يخرج منها الطالب إلى أفق الوعي والإبداع. التعليم هو الجسر بين الحلم والواقع، بين الطفولة والكرامة، بين ما نحن عليه وما يجب أن نكونه. وهي تؤمن أن النهضة تبدأ من الصف الأول، من دفاتر الصغار الذين يتعلمون كيف يحلمون. ومن هنا تؤكد جلالتها في إحدى رسائلها الملهمة:

"يجب أن يكون التعليم الذي نقدمه لأطفالنا على مدار اثني عشر عاماً رحلة تستحق طفولتهم ووقتهم وثقتهم."

عبارة تلخص فلسفتها العميقة بأن التعليم عبارة عن رحلة حياة تُبنى فيها الشخصية وتُصاغ فيها هوية الوطن.

انطلاقاً من هذا الوعي، أدركت جلالتها أن تطوير التعليم يحتاج إلى بنية معرفية حديثة تواكب العالم. لذلك أسست عام 2001 مركز الملكة رانيا لتكنولوجيا التعليم، ليكون بوابة لدخول التكنولوجيا إلى الصفوف المدرسية، ونقطة انطلاق لثورة تعليمية رقمية جعلت الأردن من أوائل الدول العربية التي دمجت التقنية في التعليم.

وفي عام 2005، أطلقت جائزة الملكة رانيا للتميز في التربية والتعليم بالشراكة مع وزارة التربية والتعليم الأردنية، لتقول للعالم ان المعلم ليس موظفاً، بل بطل حقيقي يستحق أن يُكرم كما يُكرم العلماء والمبدعون. جائزة حملت فلسفتها وكرست قيم الإخلاص والإبداع في الميدان التربوي، حتى أصبحت عنواناً للتميز التربوي في الوطن العربي.

ثم جاءت مبادرة "مدرستي" عام 2008 لتجسد إيمانها بأن البيئة المدرسية هي بيت الطالب الثاني. أطلقت جلالتها هذه المبادرة بهدف تحسين بيئة التعلم من الناحيتين المادية والتعليمية في المدارس الحكومية الأردنية، فجمعت الموارد والمتطوعين والشركات والمؤسسات لدعم المدارس الأقل حظاً والتي تحتاج إلى صيانة عاجلة في البنية التحتية والخدمات.
لم تكن المبادرة مشروعاً عمرانياً فحسب، بل مشروع حياة، لأن المدرسة النظيفة والمحفزة تولد انتماء، وتغرس في الطالب احترام المكان والذات، وتؤكد أن التعليم يجب أن يكون بيئة تليق بكرامة الطفل وتحترم طاقته وأحلامه.

وفي عام 2009، تأسست أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين لتكون أول مؤسسة متخصصة بتأهيل المعلمين مهنياً في الأردن، ولتمثل نموذجاً رائداً في تطوير التعليم وإعداد الكوادر التربوية.
ومع مرور السنوات، أصبحت الأكاديمية مرجعاً علمياً ومركز خبرة إقليمياً في مجالات تدريب وتأهيل المعلمين، وقد أطلقت عام 2016 برنامج الدبلوم المهني لإعداد المعلمين بجهودها الخاصة، ليكون في بداياته برنامجاً تابعاً للأكاديمية بشكل مباشر.

ومع تطور التجربة وتعزيز الشراكة المؤسسية، دخلت الأكاديمية في شراكة مع وزارة التعليم العالي لتدريس الدبلوم العالي لاعداد و تأهيل المعلمين في الجامعة الأردنية، والجامعة الهاشمية، وجامعة اليرموك، وجامعة مؤتة، لتوسيع نطاق البرنامج وضمان استدامته وجودته الأكاديمية.
ويُذكر أن الدبلوم العالي يُدار حالياً ضمن كليات العلوم التربوية في تلك الجامعات، استكمالاً لنهج مؤسسي يعزز التكامل بين الأكاديمية والجامعات الأردنية في إعداد المعلم وفق أحدث المعايير التربوية العالمية.

ثم توسعت الرؤية عام 2013 مع تأسيس مؤسسة الملكة رانيا للمعرفة والتنمية، التي أصبحت المظلة الكبرى للمبادرات التعليمية والبحثية في الأردن والعالم العربي، وسعت إلى سد الفجوات التعليمية من خلال البحث والابتكار وتطوير الموارد الرقمية. ومن خلال هذه المؤسسة، أطلقت جلالتها منصة "إدراك"، التي وفرت فرص التعلم المجاني لملايين العرب، تأكيداً على أن التعليم حق إنساني لا يجب أن يقاس بالمال ولا بالمسافة.

بهذا النهج، لم تبق رؤيتها نظرية، بل تحولت إلى منظومة عمل متكاملة تضع التعليم في قلب التنمية. فقد رسخت جلالتها فكرة أن كل مدرسة تُؤهل هي جدار يُبنى في صرح الوطن، وكل معلم يُدرّب هو خطوة نحو الإصلاح الحقيقي، وكل طفل يُمنح فرصة تعليم هو انتصار للعدالة الإنسانية.

التعليم في فكر جلالتها ليس مسؤولية وزارة فحسب، بل مسؤولية مجتمع بأكمله. هو عقد أخلاقي بين الدولة والمواطن، بين المدرسة والأسرة، بين الإعلام والفكر. فحين تهمل الأسرة القراءة، وحين يُختزل التعليم في العلامات، وحين نغفل عن تكريم المعلم، نفقد البوصلة التي توجه مسار الأمة.

وحين تتحدث جلالتها عن الوطن، فإنها تراه من خلال مقاعد الدراسة. فالوطن الذي لا يعلم أبناءه كمن يبني بيتاً بلا أساس، وكل طفل محروم من التعليم هو وطن ينطفئ جزء من ضوئه. لذلك كان صوتها ثابتاً: التعليم مسؤوليتنا جميعاً، لأنه لا أمن بلا علم، ولا نهضة بلا معرفة، ولا كرامة بلا وعي.

تعتبر كلمات جلالتها ميثاقاً وطنياً يورث من جيل إلى جيل، فالقوة الحقيقية تُقاس بعدد العقول المستنيرة التي تكتب المستقبل بثقة ووعي. فالتعليم كما تصفه جلالتها هو الإرث الأبقى من كل الثروات، وهو هوية الأمة التي لا يبهت لونها مهما مر الزمان. إنه المعركة الهادئة التي تصان فيها كرامة الشعوب بصمت وعزم، والبوابة التي يُفتح منها الغد المشرق بالأمل والمعرفة.

فليكن التعليم وعدنا الذي لا نخلفه، ومسؤوليتنا التي لا نتراجع عنها، وإيماننا الذي نحيا من أجله. ولنجعل كلمات جلالتها مرآة نرى فيها أنفسنا ووطننا كما يجب أن يكون.
فحين نحمل عن أطفالنا أعباء الجهل، نمنحهم وطناً يليق بأحلامهم، وحين نزرع فيهم حب التعلم، نكتب بأيدينا فجر الغد ونحفظ للأردن مجده وخلوده.