أزمة "المقاصة" الفلسطينية تفتح الباب واسعا لإعادة النظر ببروتوكول باريس

نبض البلد -
نبض البلد -

ثمانية أشهر مضت على الأزمة المالية في فلسطين، وهي الاخطر منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994، ورغم الضيق الذي يعيشه الفلسطينيون نتيجة فقدانهم 60 بالمئة من الايرادات العامة، إلا انهم ما زالوا موحدين، قيادة وشعبا، على رفض أي مس بحقوق عوائل الشهداء والجرحى والأسرى.
الازمة بدأت، بحسب تقرير لوكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) أعده جعفر صدقة للنشرة الاقتصادية باتحاد وكالات الأنباء العربية (فانا)، في شباط الماضي، عندما بدأت اسرائيل بتطبيق قانون اقتطاع 12 مليون دولار من عائدات الضرائب على الواردات الفلسطينية من الخارج ومن اسرائيل (المقاصة)، يوازي ما تدفعه الحكومة الفلسطينية من مخصصات شهرية لعوائل الشهداء والجرحى والاسرى، ما دفع القيادة الفلسطينية الى اتخاذ قرار برفض استلام عائدات المقاصة ناقصة، مع الإصرار على الاستمرار بدفع كامل مستحقات هذه العوائل كاملة.
من الناحية المالية الصرفة، ومع احتجاز عائدات المقاصة، بمعدل 700 مليون شيقل شهريا (حوالي 200 مليون دولار)، فقدت الحكومة الفلسطينية ثلثي ايراداتها، وبات مطلوبا من وزارة المالية ادارة الثلث المتبقي، الذي يتأتى من الجباية المحلية، ما اضطر السلطة الوطنية الى وضع الموازنة الاعتيادية جانبا، والعمل بموجب موازنة طوارئ، خفضت بموجبها رواتب الموظفين بنسبة 40 بالمئة، مع الحفاظ على رواتب الفئات الدنيا التي تقل رواتبها عن الفي شيقل (حوالي 570 دولارا)، وخفض النفقات التشغيلية بنسبة 20 بالمئة، ووقف التعيينات الجديدة والترقيات ذات الاثر المالي في الجهاز الحكومي، ووقف استملاك او استئجار العقارات، ووقف تنفيذ مشاريع جديدة في البنية التحتية، والاستمرار بالمشاريع الضرورية القائمة.
وفتحت هذه الازمة الباب أمام مواجهة تأجلت طويلا بين السلطة الوطنية الفلسطينية وسلطات الاحتلال، يبدو ان السلطة الفلسطينية ماضية فيها الى مدى بعيد، ليس أقله إعادة النظر في بروتوكول باريس، الذي كان يفترض ان ينظم العلاقة الاقتصادية بين الجانبين لفترة مؤقتة انتهت في العام 1999، لكنه ما زال قائما بعد مرور 25 عاما، وفي جملة ما ينص عليه، ان تتولى اسرائيل جباية الضرائب على الواردات الفلسطينية من اسرائيل او عبرها لصالح السلطة الفلسطينية، مقابل عمولة ادارية بنسبة 3 بالمئة، ما وضع ثلثي الايرادات العامة الفلسطينية تحت رحمة اسرائيل، والتي لجأت لاحتجازها ثماني مرات منذ العام 1994 بهدف الضغط على القيادة الفلسطينية وابتزازها سياسيا.
التحايل هو السمة الأبرز في تعامل اسرائيل فيما يتعلق بتطبيق بروتوكول باريس، بمعنى أنها تفرض اجراءات بشكل أحادي، ما جعل الاحتلال مشروعا مربحا بامتياز، ففي العام 1994 كان حجم الاقتصاد الإسرائيلي 76 مليار دولار ارتفع في 2017 الى 369 مليار دولار، جزء مهم من هذا النمو لا يقل عن الثلث، نتيجة منظومة "بروتوكول باريس.
فقد تجاوز إجمالي ما اقتطعته اسرائيل من عائدات المقاصة 5ر12 مليار شيقل (حوالي 7ر3 مليار دولار) في السنوات الخمس الأخيرة فقط، منها حوالي 4ر1 مليار شيقل عمولة ادارية على الجباية (3 بالمئة)، و11 مليار شيقل بدل خدمات: كهرباء، ومياه، وتحويلات طبية، وصرف صحي، ما يعطي فكرة عن مقدار الأموال التي اقتطعتها اسرائيل من المقاصة الفلسطينية على مدى 25 عاما".
وترى السلطة الوطنية الفلسطينية في الأزمة المالية الحالية فرصة سانحة لتغيير كل منظومة "بروتوكول باريس، اذ ان الاعتماد بنسبة 60 بالمئة من الدخل على مصدر ليس بأيدينا (المقاصة) مدمر للاقتصاد الفلسطيني، وهو بمثابة سكين على رقبة السلطة والشعب الفلسطيني بشكل دائم، ما دفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى توقيع قرار بذلك، ومنذ أسبوع قرر مجلس الوزراء تفويض وزارة المالية باتخاذ الاجراءات اللازمة بهذا الخصوص.
الملف الذي سيقدم إلى محكمة التحكيم الدولي في "لاهاي" سيشمل "برتوكول باريس" كمظلة لكل القضايا الأخرى العالقة، وتتضمن مخصصات عوائل الشهداء والجرحى والأسرى، التي بدأت اسرائيل باقتطاع مبالغ موازية لها، وتقدر بحوالي 144 مليون دولار سنويا، وآلية جباية الضرائب على المحروقات وتقدر بأكثر من 5ر2 مليار شيقل (حوالي 700 مليون دولار) سنويا، والرسوم الادارية التي تقتطعها اسرائيل مقابل جمعها للضرائب (3 بالمئة) وتقدر بحوالي 270 مليون شيقل (حوالي 89 مليون دولار) سنويا، والإضافات التي فرضتها اسرائيل على رسوم معبر الكرامة مع الاردن وتقدر المبالغ المستحقة للجانب الفلسطيني جراء هذه الاضافات حوالي 480 مليون شيقل (حوالي 140 مليون دولار)، والضرائب على المنشآت الواقعة في المنطقة المسماة "ج" وتقدر بحوالي 870 مليون شيقل (حوالي 250 مليون دولار)، والضرائب على الواردات الفلسطينية غير المباشرة (عبر وكلاء اسرائيليين) وتقدر بحوالي 120 مليون شيقل (حوالي 35 مليون دولار) سنويا، والمبالغ الضائعة نتيجة آلية تقاص ضريبة القيمة المضافة، التي تعتمد على اظهار الفاتورة، وتقدر بحوالي 159 مليون شيقل (حوالي 45 مليون دولار) سنويا، والضرائب الضائعة نتيجة عمل شركات الاتصالات الاسرائيلية في السوق الفلسطينية دون ان تدفع الضرائب، والتي يصعب تقديرها، وسرقة المياه الجوفية، وإعادة بيع جزء منها، والفوائد على الأموال المحتجزة لدى اسرائيل، اضافة الى انشاء منطقة تخليص جمركي فلسطينية (بوندد).
ويقول وزير المالية والتخطيط الفلسطيني شكري بشارة: الوضع في العلاقة المالية والاقتصادية مع اسرائيل لم يعد مقبولا، وارتأينا ان الفرصة سانحة لتصويبه. لم يعد التردد مقبولا فيما يتعلق بإصلاح منظومة بروتوكول باريس، فقد آن الأوان للمواجهة".
ومع بدء الأزمة، وجدت الحكومة الفلسطينية نفسها مضطرة لإدارة عملها بثلث الايرادات فقط، فاعتمدت خطة نقدية (موازنة طوارئ)، بالإنفاق حسب الاولويات، وعليه قررت الاستمرار بالاعتمادات الشهرية وفق مبدأ 1/ 12 من موازنة العام 2018، مع وقف التعيينات والترقيات واستملاك أو استئجار العقارات، وشراء السيارات، وأية اجراءات أخرى لها أثر مالي، وخفض النفقات التشغيلية بنسبة 20 بالمئة، وخفض النثريات كمهمات السفر، وعدم اعتماد اية موازنات للنفقات التطويرية الجديدة مع الاستمرار بالمشاريع قيد التنفيذ، والعمل على ايجاد شبكة تمويل من الجهاز المصرفي، فاقترضت على مدى سبعة اشهر 284 مليون دولار من البنوك، اضافة الى 250 مليون دولار من قطر، تضاف الى منحة قطرية بمقدار 50 مليون دولار، جميعها تدفع على أقساط لمدة 10 اشهر.
وقال بشارة ان تقديرات الخطة النقدية "كانت دقيقة، فقد توقعنا تراجع الإيرادات المحلية نتيجة انكماش الاقتصاد، وبالفعل فقد تراجعت بنسبة 10 بالمئة مقارنة مع الفترة المقابلة من العام 2018، كما توقعنا تراجع الدعم الخارجي للموازنة، وهذا حصل أيضا"، مشيرا الى أننا "تمكنا بما توفر لنا من إيرادات (الإيرادات المحلية والقروض المصرفية)، من دفع 50-60 بالمئة من الرواتب، بحد ادنى 2000 شيقل، ما يعني ان حوالي 55 بالمئة من الموظفين تلقوا رواتبهم كاملة، أي أننا صرفنا 72 بالمئة من إجمالي فاتورة الرواتب".
معطيات وتحليلات القيادة الفلسطينية قدرت ان الخروج من الازمة سيكون في نهاية تموز، "لكن هذا لم يحصل، وبالترتيب الأخير الذي توصلت اليه وزارتا المالية الفلسطينية والاسرائيلية بشأن الضرائب على المحروقات، تمكنت الحكومة الفلسطينية من اطالة أمد الخطة النقدية حتى نهاية شهر تشرين الأول القادم".
لكن ماذا بعد ذلك؟في أولى خطواتها العملية لنقل المواجهة الى المسرح الدولي، تطرح الحكومة الفلسطينية مسألة تعديل بروتوكول باريس الاقتصادي على اجتماع "لجنة الارتباط"، وهي تجمّع للمانحين برئاسة النرويج، ينسق المساعدات الدولية للشعب الفلسطيني، والذي بدأ في نيويورك، اليوم الاربعاء 25 ايلول ويستمر يومين، على هامش اجتماعات الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ففي كلمة له امام اللجنة، قال بشارة "لن يكون من المبالغة القول أن هذه الجولة من المواجهة المالية مع إسرائيل تحتوي على جميع العلامات الدالة على تهديد وجود الصرح الاقتصادي والمؤسسي الفلسطيني، لكنها في الوقت نفسه، فرصة فريدة لنا جميعًا للمشاركة، مرة واحدة وإلى الأبد، في بذل جهد عظيم لإعادة التفاوض على شروط بروتوكول باريس ومراجعته وإعادة صياغته".
وأضاف، نعلم جميعًا أن هذا البروتوكول، شأنه شأن الإطار الشامل لاتفاقيات أوسلو، كان هدفه ترتيبات مؤقتة مدتها خمس سنوات. الآن، وبعد العام الخامس والعشرين، تجاوز إلى حد بعيد ولفترة طويلة جدواه، وأصبح مصدراً رئيسياً لإعاقة استدامة الاقتصاد الفلسطيني، والخيار الوحيد المتبقي أمامنا هو السعي إلى وضع حد لممارسات إسرائيل الخطيرة، من خلال اللجوء إلى المحكمة الدائمة للتحكيم" في لاهاي.
وزاد، في كل سيناريو يمكن تصوره فيما يتعلق بمستقبل علاقاتنا الاقتصادية مع إسرائيل، فإن شرط تعديل البروتوكول هو عامل حتمي. "نحن الآن على مفترق طرق ويجب علينا المضي قدماً، لذلك لا نريد من المجتمع الدولي أن يتعاطف مع موقفنا فحسب، بل أن يدعم جهودنا بشكل فعال أيضاً".
"أزمة المقاصة" مع اسرائيل، تزامنت مع اتخاذ المؤسسات الرسمية الفلسطينية، بمختلف مستوياتها، قرارا بتعليق العمل بالاتفاقيات مع اسرائيل، بما في ذلك الانفكاك من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، وهو أول أهداف الحكومة الجديدة برئاسة الاقتصادي المعروف محمد اشتية.
الحكومة بدأت برنامجا طموحا لتعزيز الإنتاج المحلي، خصوصا في المجالين الزراعي والصناعي، سعيا الى خفض الواردات من إسرائيل، والتي تزيد على أربعة مليارات دولار تشكل نحو 60 بالمئة من إجمالي الواردات الفلسطينية، مقابل تعميق العلاقات الفلسطينية مع العالم الخارجي، وخصوصا الدول العربية، وفي هذا الإطار جاءت زيارتي وفد حكومي كبير إلى كل من الأردن والعراق، والتحضير لزيارة قريبة مماثلة الى مصر، في رسالة واضحة ان السلطة الوطنية الفلسطينية مصممة على المضي قدما في تغيير واقع العلاقة الاقتصادية والمالية مع اسرائيل.