اللواء المتقاعد مروان العمد
بعد ان جرت الانتخابات البلدية في تركيا بتاريخ ٣١ من آذار الماضي حقق حزب العدالة والتنمية فوزاً في غالبية بلديات تركيا الا انه خسر رئاسة عددٍ من كبرياتها ومنها انقرة العاصمة السياسية واسطنبول العاصمة الاقتصادية لتركيا . وكان من الممكن لحزب العدالة والتنمية ولأردوغان ان يتقبلوا نتائج هذه الانتخابات وعلى اساس ان هذه هي الديمقراطية ، وان على الجميع الخضوع لها ، الا ان ذلك لم يحصل وقدموا اعتراضاً على نتائج الانتخابات في انقرة واسطنبول . وكان من الطبيعي ان يسعى الحزب للسيطرة على العاصمة انقرة ، الا انه سرعان ما تقبل هذه النتيجة بعد ان تم رد اعتراضه واقر بنجاح مرشح المعارضة فيها ، والذي يمثل حزب الشعب الجمهوري التركي . ولكن الامر كان مختلفاً في اسطنبول فقد استمر الحزب بالطعن بنتائج الانتخابات فيها والطلب بأعادة الفرز في الكثير من صناديق الاقتراع وفي اعادة التدقيق في اوراق الانتخاب الملغاة .
وبعد ان كان الفارق بين مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدرم ومرشح حزب الشعب الجمهوري اكرم امام اوغلو في هذه الانتخابات هو ٣٠٠ الف صوت اخذ هذا الفارق يتقلص الى ان وصل الى ثلاثة عشر الف صوت فقط ولكنها كانت لصالح مرشح المعارضة وكانت كافية لاعلان فوزه في الانتخابات . الا ان حزب العدالة والتنمية لم يرض بذلك وقدم طلباً الى اللجنة العليا للانتخابات لاعادة الانتخابات فيها من جديد الامر الذي تم اقراره بعد سبعة عشر يوماً من استلام مرشح المعارضة لبلديتها . فلماذا قاتل هذا الحزب ورئيسه هذا القتال من اجل اعادة الانتخابات في اسطنبول بالرغم من انهم لو قبلوا بنتيجتها في حينها فسوف يحظون باحترام العالم ويقدمون درساً في الديمقراطية وقبول الآخر واحترام نتائج صناديق الاقتراع ، في حين ان اعادتها وحتى لو حققت لهم النجاح الكاسح فسوف تبقى هناك شكوكاً بأن تزويراً قد حدث في هذه الانتخابات لمصلحة حزبهم وستبقى نقطة سوداء في تاريخهم . وربما هذا ما جعل عدداً من قيادي هذا الحزب ومن بينهم احمد داوود اغلو وعبدالله غل وعلي باباكان ينتقدون هذا التصرف .
ان سبب هذا الموقف يعود من ناحية الى شخصية الرئيس رجب طيب اردوغان وعلاقته الشخصية في مدينة اسطنبول ومن ناحية اخرى الى شخصية اكرم امام اغلو والتي تتماثل في الكاريزما وقوة الشخصية بإردوغان وما يمكن ان يحقق من خلال رئاسته لبلدية اسطنبول من نجاح قد يجعل منه منافساً قوياً لا دوغان في المستقبل . ويمكن القول لو ان مرشحاً آخر من المعارضة قد فاز برآسة بلدية اسطنبول غيره لما تمت مواجهته بهذه الطريقة من اردوغان وحزبه وخاصة ان حزب الشعب الجمهوري لم يحقق من الاصوات في عموم تركيا الا اقل من ٢٠ ٪ . فيما تجاوزت الاصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية وحليفه الحزب القومي ٥١ ٪من الاصوات.
ولتوضيح ذلك نقول ان اردوغان مارس العمل الحزبي بوقت مبكر من خلال احزاب السلامة الوطني والرفاة والفضيلة الذين شكلهم نجم الدين اربكان وفي عام ١٩٨٥ اصبح رئيساً لحزب الرفاة في اسطنبول ومن هنا بدأت حكايته مع اسطنبول . ولقد كان اردوغان شاباً مفعماً بالحركة والنشاط والمقدرة على الخطابة والاقناع واصبح معروفاً في اسطنبول كلها ولذا وفي عام ١٩٩٤ وعندما ترشح لرئاسة بلدية اسطنبول نجح في الانتخابات نجاحاً كاسحاً . وكانت اسطنبول في ذلك الوقت مدينة تفتقر للكثير من الخدمات وتعاني ازمات اقتصادية ومالية وانتشاراً للفساد في اجهزة بلديتها ، بالاضافة الى التلوث والقاذورات التي كانت بها . واخذ هذا الشاب الممتلئ حيوية وحماساً بالعمل بجد ونشاط حتى غير وجه اسطنبول وجعلها من انظف وافضل المدن في اوروبا ونهض بها نهضة قوية واقام المشاريع وحسن البنية التحتية للمدينة ورفع مستوى معيشة سكانها واصبحت له شعبية كبرى فيها واصبح اسمه من الاسماء التي تتردد على مستوى تركيا كلها ويتوقع لها التقدم والنجاح، ولذا فقد استغل فرصة حل حزب الفضيلة واتجاه اربكان لتشكيل حزب جديد بأسم السعادة لينشق عنه هو ومجموعة من اصدقائه وقاموا بتشكيل حزب العدالة والتنميةعام ٢٠٠١ ، والذي اكتسح الانتخابات النيابة في تركيا عام ٢٠٠٢ بالتعاون مع جماعة فتح الله جولن وشكل الحزب الحكومة التركية والتي كانت برآسة عبدالله غل بصفة مؤقته حتى ينتهي الحظر السياسي على اردوغان ليصبح هو رئيس الوزراء لتركيا ، وقد ظل اردوغان في منصبه هذا لغايه ٢٠١٤ حيث ترشح لرآسة الجمهورية وفاز بأعلى الاصوات ولا يزال يشغل هذا المنصب حتى الآن .
وللحقيقة فقد حقق اردوغان لتركيا الكثير واوصلها لقمة مجدها وارتفعت مستوى حياة سكانها الى مستويات قياسية وبلغت قيمة الليرة التركية اعلى مستوياتها . وبالرغم من ان مركز الحكومة والبرلمان ومقر رئيس الجمهورية هو في انقرة الا ان تعلق اردوغان في اسطنبول جعله يعمل على تطويرها بحيث بلغت اوجها في العقد الاول وبداية العقد الثاني من القرن الحالي . كما ان حزب العدالة والتنمية ظل يفرض هيمنته على اسطنبول طوال هذه الفترة وحتي الانتخابات البلدية الاخيرة . ولذا فقد اصبح اودوغان يشعر ويتصرف على انها مدينته الخاصة ومنبع قوته وعزته . حتى انه وعندما حصلت المحاولة الانقلابية عليه عام٢٠١٦ لم يذهب الى انقرة بل ذهب من مرمريس الى اسطنبول وحط بطائرتة في مطار اتاتورك ومن هناك قاد التحرك الجماهيري والعسكري الذي مكنه من الاطاحة بالانقلاب ووضع الانقلابيين في السجون .
الا ان ما تبع ذلك من تصرفات اردوغان وسيطرته على جميع مفاصل الحكم في البلاد وحملات القمع والتخوين التي مارسها بحق احزاب المعارضة وكل من يخالفه الرأي وزج الكثيرين منهم في السجون وفصل الكثيرين من اعمالهم وتدخله في شؤون العديد من الدول وخاصة سورية والتي نتج عنها تدفق اعداداً كبيرة من اللاجئين السورين الى تركيا مما شكل استنزافاً لامكانياتها المالية ، ناهيك عن الكلفة المالية الضخمة لهذا التدخل سواء التدخل العسكري المباشر او دعم فصائل المعارضة السورية المعتدلة والإرهابية منها او كلفة النزوح السوري الى بلاده وما تركه من آثار على بنية البلاد وظهور حركات معادية لللاجئين السورين بحيث حدثني البعض أن سائقى التكسي في اسطمبول يرفضون نقلهم في سياراتهم واذا صدف وان ركب معهم أشخاص وأخذوا يتحدثون العربية يقومون بإنزالهم من سياراتهم
وطردهم منها لاعتقادهم انهم سوريون الجنسية . كما ان مواقفه وشخصيته جعلته يستطدم مع العديد من القوى الدولية وخاصة دول الاتحاد الاوروبي مما جعل هذه الدول تقف ضده وتحاربه وخاصة في الامور المالية والاقتصادية مما ادى الى ارتفاع نسبةالتضخم في تركيا ٢٠٪وفقدت الليرة التركية ٤٠ ٪ من قيمتها وانتشرت البطالة على مستوى واسع مما اعاد الاوضاع الاقتصادية في تركيا وحسبما اعلن احمد داوود اوغلو الى اسوء مما كانت عليه قبل عشر سنوات من الآن وحيث ان ذلك قد اثر على مستوى حياة العديد من الناس فقد ظهرت أصواتاً وخاصة في المدن الكبرى التي تأثرت بهذه الاوضاع الجديدة تسعى الى تحقيق نوع من التغيير في تركيا وعلى الاقل في اداراتها المحلية المدنية . وخاصة لمواقف اردوغان المتشنجة مع من يخالفه في الفكر والزج بتركيا في نزاعات لا علاقته لها بها.
وفي هذه الاجواء والاحوال جاءت الانتخابات البلدية التي جرت مؤخراً . والتي تنافس فيها عن اسطنبول محمد علي يلدرم رئيس الوزراء السابق واقرب المقربين من اردوغان عن حزب العدالة والتنمية واكرم امام اوغلو عن حزب الشعب الجمهوري الاتاتوركي العلماني . فمن هو اكرم امام اوغلو الذي ارعب اردوغان وحزبه العدالة والتنمية، هذا ما سأتحدث عنه في القسم الثاني من هذه المقالة