عقيدة مونرو: حين تتحوّل العقائد الجيوسياسية إلى محرّك للفوضى العالمية

نبض البلد -
عقيدة مونرو: حين تتحوّل العقائد الجيوسياسية إلى محرّك للفوضى العالمية

ليس الخطر الحقيقي في عقيدة مونرو أنها وُلدت في القرن التاسع عشر، بل في أنها أرست—مبكرًا—منطقًا سيظل يتكرر بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا: القوى الكبرى تمنح نفسها حق تعريف مجالات نفوذ، وتُعيد تفسير سيادة الآخرين داخل هذه المجالات بوصفها سيادة منقوصة أو مشروطة.

منذ إعلان الرئيس جيمس مونرو عقيدته عام 1823، لم يعد مفهوم السيادة في النظام الدولي حقًا مطلقًا للشعوب، بل أصبح قابلًا للتقييد كلما تعارض مع المصالح الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية للقوى المهيمنة. ومن هنا بدأ التحول التدريجي من نظام دولي قائم على القواعد إلى نظام تُديره الاستثناءات، وتُدار فيه الصراعات بدل احتوائها.

الهيمنة: من حمايةٍ مُعلنة إلى نفيٍ غير مباشر لحق تقرير المصير

قُدّمت عقيدة مونرو في ظاهرها بوصفها أداة لحماية دول الأميركيتين من عودة الاستعمار الأوروبي، غير أن جوهرها العملي أسس لمعادلة مختلفة: الاستقلال مسموح به، ما دام لا يفضي إلى خيارات سيادية تتعارض مع إرادة القوة المهيمنة.

بهذا المعنى، لم تعد الهيمنة احتلالًا عسكريًا مباشرًا، بل منظومة مركبة تشمل التحكم بالممرات الحيوية، والضغط الاقتصادي، والعقوبات، وإعادة هندسة النخب السياسية، وتقييد القرار الوطني بذرائع الأمن والاستقرار ومكافحة التهديدات. وهنا تحديدًا تتجلى عقيدة مونرو كتعريف قديم–حديث للهيمنة، قابل للتكرار والاستنساخ بأسماء وعناوين مختلفة.

مونرو في ثوب القرن الحادي والعشرين: من الكاريبي إلى القطب الشمالي

في العقود الأخيرة، عاد منطق مونرو للظهور بوضوح في تعامل الولايات المتحدة مع ملفات إقليمية متعددة. ففي فنزويلا، تداخل خطاب مكافحة تهريب المخدرات مع صراع الطاقة والنفط والسيطرة البحرية في الكاريبي، ما جعل السيادة الوطنية عرضة لإجراءات قسرية خارج الأطر القانونية التقليدية.

أما بنما، فإن قناة بنما تمثل مثالًا صارخًا على كيفية تحوّل الجغرافيا الاقتصادية إلى أداة هيمنة صامتة؛ فالتأثير في هذا الممر العالمي يمنح نفوذًا سياسيًا وأمنيًا غير مباشر يتجاوز حدود الدولة نفسها.

وفي غرينلاند، بلغ منطق الهيمنة مستوى أكثر حساسية، حيث اصطدم الطموح الأميركي المتجدد للسيطرة الاستراتيجية والاقتصادية على الجزيرة—بذريعة الأمن والموارد والمعادن النادرة—بمبدأ السيادة العائدة إلى الدنمارك وحق سكان غرينلاند في تقرير مصيرهم. هذا الملف كشف عن توتر حقيقي داخل المعسكر الغربي، وفتح نقاشًا أوروبيًا واسعًا حول حدود الشراكة حين تتقدم المصلحة الصرفة على احترام سيادة الحلفاء.

الحلفاء في مواجهة منطق الهيمنة

اللافت أن منطق الهيمنة لم يعد يثير حفيظة الخصوم فقط، بل بدأ يُربك أقرب الحلفاء. فقد شهدت العلاقات الأميركية–الأوروبية توترات ملموسة، سواء في ملفات تبادل المعلومات الاستخبارية، أو في إعادة تعريف أدوار حلف شمال الأطلسي، إضافة إلى الخلافات المتعلقة بتقاسم الأعباء المالية والدفاعية.

هذه التوترات تعكس حقيقة جوهرية: حين تُقدَّم الهيمنة بوصفها حقًا سياديًا لقوة كبرى، تتحول الشراكات إلى ترتيبات ظرفية، وتفقد التحالفات قدرتها على إنتاج استقرار طويل الأمد.

إسرائيل والمشروع الصهيوني: هيمنة محمية تُعمّم الاستثناء

في هذا السياق العالمي، لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبته إسرائيل ومشروعها الصهيوني التوسعي بوصفهما حالة خاصة من الهيمنة المحمية داخل النظام الدولي. فمنذ تأسيسها، لم تُعامل إسرائيل كدولة تخضع لقواعد الشرعية الدولية ذاتها، بل كمشروع استراتيجي دائم حظي بغطاء سياسي وأمني وقانوني من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.

حتى اليوم، بات هذا الاستثناء أكثر وضوحًا. فما يجري في غزة والضفة الغربية من تدمير ممنهج، وضم زاحف، وتقويض عملي لفكرة الدولة الفلسطينية، لا يعكس مجرد سياسات أمنية آنية، بل منطقًا هيمنيًا متكاملًا يرى في حق تقرير المصير الفلسطيني تهديدًا يجب تحييده لا حقًا يجب صونه.

الأخطر أن الدور الإسرائيلي لم يعد محصورًا في الإطار الإقليمي، بل تحول إلى فاعل عابر للأقاليم من خلال تصدير التكنولوجيا الأمنية، وأنظمة المراقبة، والخبرات العسكرية، والمشاركة في إعادة صياغة مقاربات السيطرة والأمن في مناطق مختلفة من العالم. وبهذا المعنى، لم تعد إسرائيل مجرد مستفيد من العقائد الأميركية والأوروبية، بل أصبحت مكمّلًا نشطًا لها، يساهم في تعميم منطق الاستثناء وإضعاف مصداقية القانون الدولي.

عقائد متقابلة… ونتيجة واحدة

في ظل هذا المناخ، لم يكن مفاجئًا أن تطور روسيا عقيدة الجوار القريب، وأن تسعى الصين إلى توسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. فحين تُشرعن الهيمنة في مكان، تصبح قابلة للتكرار في أماكن أخرى، مهما اختلفت الشعارات.

وهكذا، لم يعد العالم أمام تنافس مصالح تقليدي، بل أمام تصادم عقائد نفوذ، كل منها يرى في تقييد سيادة الآخرين شرطًا للأمن القومي والنمو الاقتصادي.

إذن: من تآكل السيادة إلى فوضى لا يمكن ضبطها

يتضح حتى اليوم أن الخطر الأكبر في النظام الدولي المعاصر لا يكمن في تعدد القوى، بل في تعدد العقائد الهيمنية التي تُفرغ مفهوم السيادة من مضمونه، وتحول حق تقرير المصير من مبدأ أصيل إلى استثناء مشروط بقبول القوى الكبرى.

وحين تُدار العلاقات الدولية بمنطق المجال الحيوي، ويُقدَّم التوسع والنفوذ بوصفهما ضرورة أمنية أو اقتصادية، يصبح الصراع هو القاعدة لا الاستثناء، وتتحول الفوضى السياسية إلى حالة دائمة لا يمكن لجمها. عند هذه النقطة، تتآكل الثقة بالقانون الدولي، وتُصاب منظومات التحالف بالهشاشة، وتغدو الشعوب—لا الدول فقط—ضحايا مباشرة لصراعات لا تملك قرار إشعالها ولا قدرة إيقافها.

وعندما تتشابه العقائد الهيمنية في جوهرها، مهما اختلفت راياتها، يصبح العالم أمام معادلة خطيرة: سياسة تُدار بالقوة لا بالقاعدة، وبالاستثناء لا بالعدالة، وبالأمن الانتقائي لا بالأمن الجماعي. وعندها، لا تعود العقائد أدوات استقرار، بل تتحول إلى محركات دائمة لعدم الاستقرار العالمي.

بقلم: المهندس سعيد بهاء المصري