لا تخافوا من مشاركة المسيحيين احتفالاتهم
د. أيوب أبودية
كثيرًا ما يُثار الخوف على هوية المسلمين ودينهم عند كل نقاش يتعلق بالمشاركة الاجتماعية بالاحتفال بالأعياد أو تبادل التهاني مع أتباع ديانات أخرى، وكأن الإيمان كيان هشّ مهدد بالذوبان عند أول احتكاك إنساني!
إذا قُرئ التاريخ بعقل واع ومحايد، يقدّم لنا صورة مغايرة تمامًا، لعل أوضح أمثلتها ما جرى لمسلمي الأندلس بعد سقوط غرناطة. كيف؟
فبعد انتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس أواخر القرن الخامس عشر، لم تلجأ الكنيسة والسلطة الإسبانية مباشرة إلى الطرد، بل حاولت على مدى عقود طويلة تنصير المسلمين قسرًا. اعتقدت آنذاك أن تغيير السلوك الظاهر كفيل بتغيير العقيدة الباطنة، ففُرضت إجراءات صارمة لمراقبة حياة المسلمين اليومية، عُرفوا حينها باسم «الموريسكيين».
أُجبر المسلمون على حضور الصلوات في الكنائس أيام الأحد، ووُضعوا تحت رقابة دائمة للتأكد من التزامهم بالشعائر المسيحية. ولم تكتفِ السلطة بذلك، بل تدخلت في أدق تفاصيل حياتهم الخاصة؛ فكان تعليق لحم الخنزير في البيوت أو طهيه علنًا وسيلة لاختبار «صدق التحول الديني»، ومنع الختان، وتجريم اللغة العربية، وملاحقة كل مظهر من مظاهر الثقافة الإسلامية، حتى اللباس والعادات الغذائية.
ورغم هذا القمع الممنهج، ورغم مرور أجيال كاملة تحت الضغط، فشلت تلك السياسات في تحقيق هدفها. فقد أدركت الكنيسة، مع مطلع القرن السادس عشر، أن الإسلام لم يغادر قلوب معتنقيه، وأن ما يجري ليس إلا تظاهرًا اضطراريًا لحماية النفس والعائلة (تقية). حينها فقط، وبعد أن فقدت الأمل في التنصير، صدر المرسوم الشهير بطرد المسلمين نهائيًا من إسبانيا.
هذه التجربة التاريخية القاسية تكشف حقيقة لا تقبل الجدل: العقيدة لا تُنتزع بالقوة، ولا تُمحى بالمراقبة، ولا تتبدد بالمشاركة الاجتماعية. الإسلام الذي صمد في الأندلس تحت السيف والتهجير ومحاكم التفتيش، ليس مهددًا اليوم بتهنئة، أو مشاركة احتفال، أو كلمة طيبة في مناسبة دينية. فزيدوا ثقتكم بأنفسكم يا إخوتنا من المسلمين.
ومن المفارقة أن بعض المسلمين اليوم يتعاملون مع دينهم في بلاد المسلمين بقلق يفوق قلق من حاولوا اقتلاعه بالقوة قبل قرون وهم تحت الإقامة الجبرية. فكيف يمكن أن يُخشى على مسلم يعيش في مجتمعه، متمسكًا بعباداته، مطمئنًا إلى هويته، من مجرد مشاركة جيرانه المسيحيين أفراحهم، بينما لم تفلح أقسى أدوات القهر في تغيير عقيدة مسلم أندلسي عاش قرونًا تحت الاضطهاد؟
العبرة التي يقدمها التاريخ واضحة: قوة الدين لا تكمن في العزلة، بل في الثقة والإيمان. ولا تُصان العقيدة بإقامة الجدران النفسية، بل بالاطمئنان إلى عمقها في النفوس. الخوف المبالغ فيه من الآخر لا يحمي الإيمان، بل يسيء إليه، ويحوّله من يقين راسخ إلى حالة دفاع دائم.
إن مشاركة المسلمين للمسيحيين احتفالاتهم، أو تبادل التهاني معهم، لا تنتقص من الإسلام في شيء، بل تعكس ثقة أهله بدينهم، واحترامهم لإنسانية الآخر، ووعيهم بأن الاختلاف الديني لا يلغي العيش المشترك. كما أن الامتناع عن المشاركة، إن اختاره الفرد، يظل حقًا شخصيًا لا يجوز تحويله إلى معيار إيمان أو أداة تخوين.
التاريخ يعلّمنا أن الأديان الحيّة لا تخاف من التواصل، وأن العقائد الراسخة لا تهتز بالمجاملات الاجتماعية. وإذا كان مسلمو الأندلس قد حافظوا على إيمانهم في أحلك الظروف، فلا مبرر اليوم لكل هذا القلق من مشاركة إنسانية بسيطة، ولا حاجة لتحويل الدين إلى مساحة خوف بدل أن يكون مصدر طمأنينة.
في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى التماسك الاجتماعي، يبقى الدرس الأندلسي شاهدًا على أن الثقة بالدين أقوى من كل أشكال الانغلاق، وأن احترام الآخر لا يهدد الإيمان، بل يكرّسه في أبهى صوره، خاصة في ظل الهاشميين بوصفهم صمام أمان للطائفية والاقليمية والجهوية والحزبية المتعصبة. وكل عام وأنتم بخير، وتذكروا أن إسبانيا اليوم من أشد الدول الأوروبية مناصرة لقضايا العرب والمسلمين، وعلى رأسها فلسطين. والعالم متغير متبدل لا يعرف الركون والسكون، فلا تكن قاسيا فتنكسر، بل لينا كالغصن الغض، فدوام الحال محال، والدائم الوحيد هو الله، " الدايم الله".