نبض البلد - تعدد الزوجات: مفارقة الحلال والإيمان الانتقائي، صراع عصا موسى وتهديد قنبلة موقوتة.
د. دانا خليل الشلول
أثارت الدعوات الأخيرة لإحياء رخصة تعدد الزوجات كحلٍ لأزمة العنوسة وتأخر الزواج في الأردن جدلاً واسعاً؛ وهنا يجب أن نقف بحزمٍ لنقول؛ إنََ النقاش الحقيقي ليس في مشروعية التعدد فهي ثابتة شئنا أم أبينا، لكن النقاش في مشروعية وقابليّة التطبيق في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي الأردني، حيث يمكن أن يتحول الحل الإلهي إلى تحدٍ اجتماعي وقانوني.
فيما أنَّ هذا المقترح يمثل مفاضلة بين اعتباره "عصا موسى" لحل المشكلة بسرعةٍ، أو "قنبلة موقوتة" تهدد استقرار الأسر وتزيد من حالات الطلاق في الأردن والتي تشهد تزايداً مستمراً وملحوظاً وفقاً لأحدث الإحصاءات الرسمية.
التعدد بين شرط الشرع والإيمان الانتقائي:
من المعروف أنَّ التعدد رخصة شرعية مقيدة بـالعدل والاستطاعة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ (سورة النساء، الآية 3).
وعلاوة على ذلك، يظهر التناقض في المفهوم الديني؛ فالمرأة تتمسك بوجوب النفقة كحكم ديني ثابت على الرجل وأنّه شرع الله، إلا أنها في ذات الوقت تنسى أن التعدد رخصة شرعية مباحة أيضاً في الشرع، وكأننا نقع في فخ الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه؛ وبالتالي، هذا التمييز في القبول بين حكمين كلاهما "حلال"، يؤكد أن المسألة تتحول من شرع إلى تفضيل شخصي عند التطبيق، مما يجعلنا نتشبه ببني إسرائيل حيث لا يجوز شرعاً أن نختار ما يعجبنا من أحكام الدين ونترك ما لا يتوافق مع رغباتنا، وعليه قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ (سورة البقرة، الآية 85).
فضلاً عن ذلك، يجب التذكير بأنَّ الرجل غير مُطالب بالعدل القلبي بين نسائه، لقوله تعالى: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ (سورة النساء، الآية 129)؛ وهذا يقودنا مباشرة إلى التحدي العملي الأكبر، وهو شرط الاستطاعة، حيث يتحول التحدي الاقتصادي إلى تهديد قانوني يقوّض تطبيق الرخصة.
التحدي الاقتصادي والتهديد القانوني (الإعسار والعواقب):
في المقابل، نجد أن الواقع الاقتصادي هو المقياس الحقيقي للاستطاعة؛ فأولاً، حتى الرجال الميسورين يُحجمون عن التعدد لأنهم يخشون من التبعات القانونية والمالية لطلاق الزوجة الأولى وما يترتب عليه من حقوق ضخمة، وخاصة أن طلب الزوجة الطلاق يهدد بتشرد الأسرة الأولى وزيادة الأعباء الاجتماعية؛ وذلك لأنَّ الزوجة الأولى غالباً لن تقبل بالتعدد وستطلب الطلاق والانفصال، وثانياً، الرجل المطلق الذي يجب أن يكون بديهيّاً جزءً من الحل هو نفسه المُهدَد بالحبس بموجب قانون التنفيذ لعدم قدرته على دفع نفقات الزواج الأول، وهذا يجعله يعزف عن أن يقدم على زواج ثانٍ خوفاً من تكرار التجربة الفاشلة التي أدت به إلى الإعسار والملاحقة القانونية. وبناءً على هذا، يزيد هذا التحدي من خوف المرأة التي قد تقبل التعدد من تكرار التجربة الفاشلة، خاصة إذا كان زوجها المستقبلي غير قادر على ضمان العدل المالي.
كما أن التعدد في ظل الإعسار يغدو تطبيقاً مستحيلاً للعدل، حيث أنَّه قد يُولّد تفاوتاً صارخاً في المعيشة بين الأسر، مما يؤثر سلباً على الصحة النفسية للأبناء ويغرس فيهم الشعور بالغيرة والتفرقة، وبالتالي يزيد من مخاطر التفكك الأسري.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ هذا الإعسار الذي يواجهه الرجال المطلقين، والذين يعانون من قضايا الإنفاق والإعسار الشرعي وتبعاته ومتطلباته، يدعو الشباب الذين لم يُقبلوا على الزواج للخوف من خوض تجربة الزواج؛ خوفاً من التداعيات المالية والتبعات الاقتصاديّة التي قد تترتب عليه نتيجة هذا الزواج، الأمر الذي يخلق مشكلة بعزوفهم عن الزواج.
قصر الحل في تعدد الزوجات على النخبة ومخاطره الأسرية:
من ناحية أخرى، فإن مقترح تحميل الوزراء والنواب وكبار المسؤولين مسؤولية التعدد غير واقعي لأنه لا يمكن فرضه كـتكليف إجباري، فهو متصل بالرغبة والقدرة، والاستعداد النفسي والعاطفي
وهنا، يجب الإقرار بأنًَه لا يمكن تحويل رخصة التعدد إلى إجبار اجتماعي على النساء لقبولها، حيث أن كثيراً من الفتيات يفضلن عدم الزواج على أن يكنّ الزوجة الثانية، وعليه، يجب أن يركز قانون الأحوال الشخصية على ضمان النفقة واستقرار الأسرة القائمة، كما يجب أن تتوجه جهود الحكومات والمجتمع المدني إلى دعم الشباب اقتصادياً، وتوفير وظائف مناسبة لهم، وتخفيض كلف الزواج بدلاً من الدعوة لحلول مثيرة للجدل وصعبة التطبيق.
خلاصة القول، يجب الإقرار بأنَّ الله أتاح التعدد فعلاً لحل مشكلة العنوسة وتأخر الزواج وتلبية حاجة اجتماعية وإنسانية، إلا أنَّ التحدي ليس في التشريع، بل في التطبيق؛ فالتعدد يظل رخصة شرعية قائمة بذاتها لمن استطاع العدل والإنفاق؛ إلا أنَّ التحدي الحقيقي يكمن في عدم القدرة على تحقيق شرط العدل والاستطاعة في ظل تفشي الإعسار الاقتصادي وارتفاع مخاطر الطلاق.
فالتعدد ليس واجباً، بل هو رخصة قائمة على الخيار الشخصي لمن استطاع الوفاء بشروطه المادية والنفسية والاجتماعيّة بشكلٍ كامل ومتكافئ.
ولا ننسى أنَّ التمسك بالرخصة دون الوفاء بالشرط يحولها إلى قنبلة موقوتة، مما يؤكد أنّ الحل يكمن في التمكين الاقتصادي أولاً، خاصةً للشباب الذين يُعانون من البطالة وسوء الأحوال الاقتصادية ولم يُقدموا على تجربة الزواج الأول بعد.