نبض البلد - د.أيوب أبودية
عندما بدأت دراسة الهندسة، كنت أعتقد أن النجاح فيها مرهون بإتقان الأرقام، والمعادلات، والبرمجيات، وأن الخبرة والتفكير المنطقي وحدهما يكفيان للوصول إلى حلول فعّالة ناجعة.
ولكن، لاحقًا، عندما انغمست في قراءة الفلسفة، اكتشفت أن ما كنت أعتبره طريقًا خطيًا في الهندسة، يمكن أن يتحول إلى فضاء أوسع مليء بالأسئلة العميقة والنقدية. لم تكن الفلسفة بالنسبة لي هروبًا من التقنية، بل كانت نافذة لأعيد النظر في معنى عملي، وكيف أفكر، وأصمّم، وأطبق النظرية في الواقع، في ضوء الأبعاد الكونية والاخلاقية والجمالية والانسانية.
أول ما أحدثته الفلسفة في مهنتي هو تطوير القدرة على طرح الأسئلة بدلًا من البحث السريع عن الإجابات. ففي الهندسة، نحن مبرمَجون ذهنيًا لحل المشكلات، لكن الفلسفة علمتني أن المشكلة الحقيقية قد تكون في كيفية تعريف المشكلة نفسها. أصبحت أسأل: هل نحل المشكلة الصحيحة؟ هل هذا الحل أخلاقي؟ هل هو الحل الأفضل ولا يعتدي على حرية الآخرين على المدى الطويل، أم هو مجرد حل سريع؟
هذه الطريقة في التفكير ساعدتني في اتخاذ قرارات تصميم أكثر وعيًا، وفي تجنّب الافتراضات المسبقة التي يمكن أن تؤدي إلى أخطاء مكلفة.
كما عززت الفلسفة لديَّ التفكير النقدي والقدرة على رؤية الاحتمالات المختلفة. فالهندسة تميل إلى الحسم: إما نعم أو لا، ممكن أم غير ممكن. أما الفلسفة فتعيش بين المساحات الرمادية، بين احتمال وآخر، ومتغير وآخر. فعندما أواجه اليوم في عملي مشكلة تقنية، أصبح لدي استعداد أكبر لتفكيكها إلى عناصرها الأولية، والنظر إليها من زوايا متعددة، بدلًا من القفز مباشرة للحل. هذا جعل الحلول التي أقدّمها أعمق وأكثر ابتكارًا وأرفق بالطبيعة.
كما منحتني الفلسفة إحساسًا أكبر بالمسؤولية الأخلاقية تجاه عملي. ففي عالم تتسابق فيه الشركات نحو الربح، ننسى أحيانًا أن كل قرار هندسي له أثر اجتماعي وبيئي، وقد يؤثر على الحريات والعدالة والانصاف والخير. تعلمت من الفلسفة أن لا أتعامل مع المشروع كخوارزمية، بل كجزء من حياة الناس والمجتمع.
وهكذا أصبحت أتساءل: هل هذا التصميم مستدام؟ هل يسهم في تحسين حياة المستخدمين؟ ما هي أضراره على المجتمع؟ هذا الوعي جعل عملي أكثر إنسانية، وليس مجرد تنفيذ لمتطلبات فنية.
وأخيرًا، أعطتني الفلسفة القدرة على التواصل بوضوح. فالفيلسوف لا يكتفي بأن يفهم الفكرة، بل يسعى لنقلها بوضوح وإقناع ويطور عليها. أما الهندسة فهي تغرق في التفاصيل التقنية التي يصعب مشاركتها وتعديلها. والجمع بين المجالين جعلني أكثر قدرة على شرح المشاريع بلغة يفهمها الفريق الهندسي والمقاول والمستثمر وصاحب القرار على حد سواء.
لقد حررتني الفلسفة من ضيق المعادلات إلى رحابة الأسئلة، وجعلتني مهندسًا لا يكتفي بأن يبني الأشياء، بل يدرك معناها وأثرها على المجتمع والبيئة، ويبحث في أثرها بعيد المدى، إلى استدامة الاجيال القادمة، ويسعى إلى ما هو أبعد من الحلول الجاهزة. اليوم، لا أرى الهندسة والفلسفة مجالين منفصلين، بل أراهما مسارين يلتقيان في نقطة واحدة: فن التفكير في كيفية صنع عالم أفضل بأقل الموارد الممكنة والتلويث الممكن.
إحدى التحولات العميقة التي أحدثتها الفلسفة في مساري الهندسي هي أنها منحتني القدرة على رؤية الأشياء في كليتها قبل الانغماس في تفاصيلها. فالهندسة عادةً تبدأ من الجزء إلى الكل: فكرة، شكل متخيل، معادلة، ثم مشروع كامل. أما الفلسفة فتعلمك أن تبدأ من السؤال الأكبر: ما الهدف؟ وأين يقع هذا الجزء داخل الصورة الكبرى؟ هذا التغيير جعلني أقل اندفاعًا نحو الحلول التقنية وأكثر ميلًا لفهم المنظومة ككل قبل التعديل على عنصر واحد فيها.
أذكر مرة في مشروعٍ لتطوير نظام رفع كفاءة طاقة في مبنى، ركز الفريق على تحسين تدفّق الهواء البارد في طابق واحد يعاني من الحرارة المرتفعة. وبينما كان التركيز منصبًا على أجهزة التكييف نفسها، دفعتني الخلفية الفلسفية للتساؤل: هل المشكلة في التكييف أم في التوزيع العام لحركة الهواء داخل المبنى، أم في مشكلة أخرى؟ وبعد مراجعة شاملة اكتشفنا أن السبب كان في عدم تظليل النوافذ في ذلك الطابق رغم وجود ستائر، ولكنها لم تكن تستعمل. فبدل إنفاق ميزانية كبيرة على أجهزة جديدة، أعيد تصميم المسار الداخلي للهواء بحجب أشعة الشمس فترة الظهر، وكان الحل سلوكي ومجاني وتم توفير آلاف الدنانير . الفلسفة هنا لم تقدّم حلاً فنيًا، لكنها جعلتني أرى المشكلة السلوكية ضمن منظومتها الكاملة، لا كجزء منفصل. وهكذا أدركت أن التفكير الكلّي ليس ترفًا نظريًا، بل أداة عملية لإنجاز هندسة أكثر إنسانية.