الأنباط- الاف تيسير
تتجلى في كلمات جلالة الملكة رانيا رسائل ملكية تستحضر الأبعاد التاريخية المسؤولية الأخلاقية وتتناول قضايا عالمية معاصرة، من العدوان على غزة إلى أزمة الكراهية مروراً بتحديات الذكاء الاصطناعي وتآكل التعاطف الإنساني لتعيد تعريف القيادة الأخلاقية في الخطاب السياسي العالمي.
بدأت الملكة خطابها الاستثنائي بروح من الدعابة، مشيرة إلى إصابتها بنزلة برد، طالبةً من الجمهور اعتبار أي سعال "استراحة درامية"، ثم واصلت حديثها في افتتاح قمة " عالم شباب واحد 2025" في ميونخ، بلغة وجدانية عميقة ومليئة بالتحليل الواقعي للأزمات العالمية.
وأكدت الملكة أن تحول الذكاء الصناعي أمر لامفر منه، مشيرة إلى أن حلقة الاستقطاب السياسي تحكمًا، وأن المناخ تم تجاوز نقطة التحول الكارثية.
و في ظل ازدياد الصراعات العالمية، التي وصلت بلغت أعلى مستوياتها منذ عقود، قائلت الملكة: " لاتوجد منطقة على وجه الأرض شهدت تحولاً وحشيًا كالذي شهده قطاع غزة"
وأضافت أن مأساة غزة ترتبط بالقيم الإنسانية العالمية،موضحة أنه قبل عام 2023 كانت غزة محاصرة لمدة 16 عامًا، وشعبها يعانون ويختنقون وبالرغم من ذلك ظلوا أحياء .
أما اليوم، فقد سويت غزة بالأرض وأبيدت أسر بأكملها ولم يتبق منها ناجٍ واحد وقتل آلاف الأطفال وأعداد لا تحصى من الأيتام والجرحى المثقلين بالصدمة، ووصفت الملكة وقف إطلاق النار "هش"، مؤكدة أن"الإحتلال الإسرائيلي" غير الشرعي لفلسطين مازال مستمرًا في قمع الشعب الفلسطيني .
الكراهية تتجدد بأسماء جديد
توقفت الملكة مطولًا عند خطر الكراهية المتجددة في العالم، معتبرة أن العنصرية عادت بأسماء مختلفة، واصفةً الكراهية أنها متخفية تحت عباءة الوطنية ، والتفوق سُمّي فخرًا ثقافيًا، أما "معاداة السامية والإسلاموفوبيا" فتم تبريرهما تحت شعار حرية التعبير.
أوضحت أن الكراهية تسوق لجمهور جديد بالتدريج على شكل "نكات مضحكة" أو"ميم" ساخرة أو تعليقات غير لائقة ، مستفيدة من سهولة الوصول إلى الجيل الجديد عبر التقنيات الحديثة والمنصات الرقمية فيما يشبه" بالتسويق الممنهج للكراهية".
تبدأ الكراهية بالكلمات
شددت الملكة على أن كل إبادة جماعية في التاريخ بدأت بخطاب كراهية، مستذكرة في الثلاثينيات في القرن الماضي في ألمانيا وصف الحزب النازي " اليهود" بأنهم "آفات "متابعة أن البث الاذاعي "التوتسي" وصف روندا بأنهم " صراصير" وميانمار" كلاب الضالة" فيما وصف الخطاب "الإسرائيلي" الذي وصف سكان غزة بأنهم "حيوانات بشرية" وكما أنهم يسيرون وفق نهج قديم لإقناع الجماهير بأنهم يتعاملون مع وحوش .
أشادت الملكة بالتزام ألمانيا للذكرى والمسؤولية مؤكدة أن كل حياة بشرية لها ذات القيمة.
الصمت ثمنه باهظ
أكدت الملكة أن الكراهية لا تتقدم الا رفقة الصمت واللامبالاة، فهما يمنحان الشرعية لمن يرفضون التطرق إلى القضايا الصعبة؛ قائلة :"إن بعض الناس يبررون صمتهم بالقول إن الأمور معقدة، بينما ما يقصدونه فعلًا هو أنهم لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم".
أضافت أن اللامبالاة ليست أمراً بريئًا بل تطيل عمر الظلم، والتنازلات تلو الأخرى يؤدي بنا الى استسلام صامت وسقوط الأخلاقي .
إنفصال الإنسان عن ذاته
أشارت الملكة أن بعض المفكرين السياسين يرون أن الفظائع دائمًا مدفوعة بأيدلوجيات متعطشة للدماء، لكن الواقع أن الناس العاديون قادرون على ارتكاب أعمال عنف استثنائية الوحشية،حين يتوقفون عن بأنفسهم وانعدام ورفض التأمل في معنى الصواب والخطأ.
وبينت أن الطاعة العمياء وغياب التأمل الأخلاقي يقودان الى ماوصفته " بالكسل الاخلاقي"، وأن التحييد المتعمد للعقل والقلب، و أن عدم الاكتراث بدل الفضول والراحة بدل المشاركة يعد خيانة لذات.
إن اللامبالاة الرقمية شكل من أشكال التواطؤ وهو طرح قريب من نظريات علم الاتصال كنظرية حول تفاهة الشر ونظرية "التخدير التكنولوجي".
الذكاء الاصطناعي.. خطر على الروح الإنسانية
خصصت الملكة جزءًا من خطابها لتحذير الشباب من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا في العلاقات الإنسانية والفراغ الوجودي محذرة من استبدالها في العلاقات الانسانية بوهم التواصل العاطفي بالتزامن واستخدام الذكاء الاصطناعي،مشيرة إلى أن اكثر استخداماته أصبحت للرفقة والعلاج النفسي والبحث عن الهدف والمعنى، ومحاولة البحث عن إجابات عن أعظم أهم أسئلة الحياة بردود عامة وحلول مصطنعة .
وفي ختام خطابها، دعت الملكة الشباب إلى الأمل والتفاؤل، والدفاع عن حريات الشعوب المظلومة حتى لو لم يلتقوا بها يومًا، والاستمرار بالضغط على مؤسساتهم للالتزام بالمعايير الاخلاقية والتبرع، والاحتجاج، ومساعدة المستضعفين، والتنظيم في سبيل كسر الحصار عن شعب غزة الذي يتضور جوعًا.
وأكدت أن أعظم المعارك الإنسانية هي مواجهة خطاب الكراهية داعية الشباب الى أن لا يهربوا من المشاعر أو المحادثات الصعبة بل يواجواجهوها بصدق.
تجاوز الخطاب الأطر البروتوكولية ، ليصبح نداءً عالميًا للضمير الإنساني، استخدم فيه بلاغة التاريخ وقوة الأخلاق في مواجهة عجز النظام الدولين لتؤكد أن القايدة الحقيقة ليست بالسلطة ، لكنها تترجم بالمسؤولية الأخلاقية .