رغم الصعوبات.. يمكن أن تكون هذه بداية فرصة تاريخية
نبض البلد -
لم يتوقع أي منا أن نرى المشهد الذي كنا نشاهده في الأمس القريب، وقد لا تكون البشرية قد شهدت حدثا أكثر إيلاما وفظاعة وجرما مما شاهدناه في غزة، فهل هذه الصورة السوداء القاتمة ستستمر وتزداد قتامة؟ وما العمل، ضمن المتاح واقعيا؟
لم يتوقع أي منا أن نرى المشهد الذي كنا نشاهده في الأمس القريب، وقد لا تكون البشرية قد شهدت حدثا أكثر إيلاما وفظاعة وجرما مما شاهدناه في غزة، فهل هذه الصورة السوداء القاتمة ستستمر وتزداد قتامة؟ وما العمل، ضمن المتاح واقعيا؟
بداية أعتقد، وأدعو الله جلت قدرته أن يكون اعتقادي غير مصيب، الهدنة التي رأيناها بسبب الاتفاق الموقع لن تدوم، وستعود آلة الحرب الإسرائيلية للعمل بوحشية خلال فترة قصيرة في غزة أو الضفة أو غيرها، فالوضع الإسرائيلي الداخلي لا يسمح بعدم وجود حرب.
أما إلى أين، فبالرغم من كل السواد والجرائم والقبح، هنالك مؤشرات واضحة على تغيرات كبيرة في محاور رئيسية ثلاث: عربياً، إسرائيلياً وعالمياً. وهذه التغيرات يمكن أن تقود لفرصة ذهبية لعمل مؤسسي يحدث تغيرات مهمة ومستدامة في الوضع العربي.
أما عربيا، فللمرة الأولى منذ ما يزيد على ثلاثين عاما من الاختلافات والخلافات العربية، نرى شبه توافق وإجماع عربي على ملف القضية الفلسطينية، ويقترب فيه موقف الغرف المغلقة من الموقف المعلن، بعد أن كان السلام والتطبيع مع إسرائيل في جل الدول العربية قاب قوسين أو أدنى.
علاوة على ذلك، وبعد استهداف إسرائيل لقطر، باتت الدول العربية تشعر أنه لا توجد دولة بمنأى عن خطر إسرائيل، فقد أضحت إسرائيل غير عابئة بالقوانين أو المعاهدات أو التوافقات أو ردات فعل العرب ولا حتى ردات فعل العالم. وهذا كله أسهم - وما يزال- في تقارب حقيقي أكبر بين الدول العربية، يمكن الوصول من خلاله إلى نتائج واقعية تحدث أثراً على الأرض؛ إذ تم البناء على هذا الخطر المشترك.
أما محور الداخل الإسرائيلي، فرغم معادلة القوة العسكرية التي تبين مؤخّرًا أنّها أقوى مما كنا نعتقد في التخطيط والتنفيذ العسكري والاستخباراتي، فإنّ عواملَ الضعف الداخلي باتت أكبر من أيّ وقتٍ مضى، فصراع الحريديم مع الدولة والمجتمع على إعفائهم من خدمة الجيش الإلزامية وإعفائهم من دفع الضرائب، وغيرها من الملفات، وتراجعُ قوى اليسار (التي كانت أساسَ بناء دولة إسرائيل) في المجتمع، وتكسير جوانب كبيرةٍ من مؤسسية الدولة من القضاء والتراتبية ومأسسة الأجهزة الأمنية إلى تركيزِ القوى بيد شخصٍ واحدٍ، رئيس الوزراء، غير المعني بمؤسسات الدولة، كلّ هذه أمور لم نشهدها منذ نشوء إسرائيل.
وهذه ليست محطةً عابرةً في تاريخ إسرائيل، بل هي بدايةٌ لخللٍ مركزيٍّ في أدوات عمل "السيستم” الإسرائيلي، وكما ذكرها أحد عناوين صحيفة الهائيرتز الإسرائيلية على أعقاب اتفاق الهدنة "عاد الآن نتنياهو وموالونه لتهديم الديمقراطية في إسرائيل”.
أضف إلى ذلك أنّ ما تعرّضت له إسرائيل من ضرباتٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ منذ أكتوبر(2023) لم يؤثر على أرقام الاقتصاد الإسرائيلي فحسب، بل أثر على الحياة اليومية لكلّ مواطنٍ فيها. والأهم من هذا وذاك أنّ ما حدث كسر وعدَ نشوء إسرائيل لمواطنيها، من وطنٍ آمنٍ لليهود في العالم، ودولةٍ يهوديةٍ تحظى بالاحترامِ والتأييدِ العالميّ، وهذه عناصرُ تشي مجتمعةً بوهنٍ بنيويٍّ كبيرٍ لم نره في إسرائيل من قبل. وبجمع هذه المؤشرات الداخلية والاقتصادية، يظهر أنّ الزمنَ السياسيّ اليوم لا يقتصر على المعارك العسكرية، بل يجب أن يشمل القدرة على قراءة الواقع بدقة واستثمار نقاط الضعف لتحقيق تأثيرٍ دائمٍ وإستراتيجي.
أمّا عالميًا، فإسرائيل التي كانت أولويتها الأولى إقناعَ العالم بمظلوميتها وديمقراطيتها وتطورها، باتت اليوم غير معنية بآراء العالم بصورتها. وهذا يعكس تحوّلًا نوعيًّا في الديناميكية العالمية، حيث لم تعد القوة وحدها تكفي، بل صارت الشرعية والموقف الدولي جزءًا أساسيًّا من أدوات الضغط على الدول. وقد أصبحت جرائم إسرائيل خبرًا يوميًّا أو شبه يوميٍّ في الكثير من الصحف البريطانية والألمانية والفرنسية والإسبانية والإيطالية الرئيسية، حتى إنّ استطلاعاتَ الرأي باتت تعكس مزاجًا شعبيًّا أوروبيًّا وأميركيًّا (بفئات عمرية صغيرة) واضحًا ببغضه لجرائم إسرائيل.
ففي الوقت الذي يظهر فيه استطلاع جريدة التايمز أن تعاطف الأميركان بعد أحداث 7 أكتوبر مباشرة مع الإسرائيلين أكثر من تعاطفهم مع الفلسطينيين (٪47 يتعاطفون مع الإسرائيليين
و٪20 يتعاطفون مع الفلسطينيين)، فقد انقلبت اليوم هذه الأرقام لتظهر أن 34 ٪ من الأميركان يتعاطفون مع الإسرائيليين و٪35 يتعاطفون مع الفلسطينيين،
و٪31 غير متأكدين أو يقفون مع الجانبين.
والأهم من هذا كله أن هذا الاستطلاع الأخير يظهر أن 41 ٪ من الأميركان يرون أن إسرائيل تتقصد قتل المدنيين في غزه وهذا تقريبا ضعف النسبة التي قالت بذات الأمر في 2023. علاوة على ما ذكر فإن 43 ٪ من الأميركيين يعتقدون أن إسرائيل ترتكب جرائم إبادة جماعية. وهذا كله انقلاب كبير في الرأي العام الأميركي.
أما أوروبا فلها في إسرائيل أهمية كبرى، فبحسب مجلة الفورين أفيرز (Foreign Affairs)، فإن الأوروبيين هم المستثمر الأكبر في إسرائيل، علاوة على أن إسرائيل لا يمكن أن تعيش الأكاديميا فيها دون البرامج الأوروبية المشتركة، كذالك فإن حجم الصلة الأكبر لإسرائيل في الرياضة والثقافة هو مع أوروبا، لذا فإن الغضب الأوروبي له أثر كبير على إسرائيل. وعلى هذا فإن الاعتراف الأوروبيّ والعالميّ بفلسطين، والقيود الاقتصادية (وإن كانت محدودة) على إسرائيل، مرورًا بقيودِ أوروبا على بيع السلاح إلى إسرائيل (وإن كانت محدودة أيضًا)، وهذا كله له أهمية كبرى كونه غير مسبوق.
ومن المهمّ بمكان الإشارة إلى أنّ هذه السوابق التاريخية لم تأتِ بسبب إدراك ساسة العالم لبشاعة ما تقوم به إسرائيل، بل لأنّهم مضطرون للاستجابة لغضب شعوبهم؛ وهو غضبٌ لم يكن بهذه القوة والإصرار في أي وقتٍ مضى، وهذا واقعٌ معرضٌ للنمو مع الزمن، كون الشباب الأميركي والأوروبي الرافض لبشاعة ما قامت به إسرائيل سيصبحون في صفوف متخذي القرار مع الزمن.
وهذا يقود للقول إنّه يمكن اعتبار هذه السوابق بدايةً لتغيير طويل الأمد في موازين القوة الأخلاقية والسياسية، حيث ردّ الفعل الشعبي جزء من الحسابات الإستراتيجية للدول الكبرى.
وأمام هذا الوهن الذي بدأ يصيب بعضَ مراكز الأعصاب في مؤسسات القرار الإسرائيلي، والتقارب العربي على فكرة أنّ الخطر الإسرائيلي على المنطقة (واقعي)، وبروز مظاهر لأشكال من النفور العالمي من إسرائيل، تبرز فرصة ذهبية لعمل مؤسسي يهدف لإحداث تغيرات مهمة ومستدامة في الوضع العربي من خلال مسارين مهمّين يمكن العمل عليهما، وضمن هوامشٍ ليس عليها فيتوهات إقليمية أو عالمية.
أما الأول فهو المسار العربي-العربي، وهذا مسارٌ قد بدأ العمل فيه فعليًّا، إلا أنّه يمكن تسريعُ وتنوّع وتيرةِ عمله من خلال تكثيف التنسيق السياسي العربي، وتعزيز فكرة تعظيم الجوامع، خصوصًا فيما يتعلّق بالتهديدات والمخاطر المشتركة على المنطقة العربية، وعلى رأسها ما تقوم به إسرائيل في المنطقة بأسرها ورؤية إسرائيل الإستراتيجية للمنطقة.
ولا بدّ من التنويه هنا إلى أنّ الهدف من هذا المسار ليس وحدةً عربيةً بالمفهوم التاريخي التقليدي، بل درجة أعلى من التنسيق وتوحيد المواقف حول المخاطر والأهداف والفرص المشتركة، لذا فهناك حاجةٌ لوضع أهدافٍ كبيرةٍ، واضحةٍ، ومشتركةٍ وواقعيةٍ للمنطقة العربية، تستهدف التعاطي مع تهديدات الأمن العربي، وتعزيز فرص التأثير الإقليمي، وكذلك دعم النمو والازدهار العربي.
وهذا يتطلّب بالضرورة أربعة أمور رئيسة:
1. أن يُجترح توافقٌ من جميع اللاعبين العرب الذين يقبلون الانضمام لهذا المسار، على أن يكون هذا توافقًا كاملًا.
2. أن يقتصر التوافق على العناوين المشتركة التي يتم الاتفاق عليها دون غيرها.
3. ألا تمسّ أي من هذه المواضيع الشأنَ الداخلي أو السياسة الداخلية لأي دولة.
4. أن يتمّ التوافق بوضوح على أنّ هناك هامشًا مقبولًا للخلاف بين الدول المذكورة، ولا يجوز لهذا الخلاف أن يتعدّى كونه خلافًا محدودًا.
أمّا المسار الثاني، وهو الأهم، فهو متصل اتصالًا مباشرًا بالمسار الأول؛ وهو خلق "مكنات” محترفةٍ وممنهجة لتسويق الصوت العربي والقضايا العربية المشتركة المذكورة في المسار الأول في أميركا وأوروبا. ذلك أنّ معركة الوعي لا تقلّ أهميةً عن معركة الميدان، وفي عالم تتشكل فيه القناعات عبر الرواية والصورة والخطاب، يصبح غيابُ الصوت العربي الممنهج فراغًا يملؤه الآخرون بتفسيراتهم. ويتم ذلك من خلال إنشاء صناديق ومؤسسات أميركية-عربية وأوروبية-عربية، كبيرة التمويل ومحترفة التنظيم على نسق الأيباك (AIPAC) وغيرها من المنظمات، لتعنى بالتواصل مع الإعلام والناخب وصانع القرار والعمل على التأثير عليهم.
ومع استمرار العمل بهذا المسار الثاني، سينضج المسار الأول والثاني بعضهما بعضا ليصبحا أكثر وضوحاً ومتانة. ويجب النظر إلى هذه "المكنات” كاستثمار إستراتيجي طويل الأمد، يسمح للمنطقة العربية بالتموضع بقوة في الفضاء الدولي، وصناعة الرأي العام العالمي بما يعزز مصالحها ويوازن التأثيرات الأخرى.
إن المسارين المذكورين في الإطار المحدّد سابقًا يفترض ألا يستجلبا تحفظاتٍ محليةً كبيرةً في الدول العربية، ولا أن يشكّلا خطورةً داخليةً فيها. وقد يقود العمل عليهما، في النتيجة، إلى بلورة بذور مشروعٍ عربيٍّ واضح، يتواجه أو يتحاور اتفاقًا واختلافًا مع المشاريع الأخرى العميقة الموجودة في المنطقة. ففي ظلّ وجود المشروع الفارسي والمشروع التركي والمشروع الإسرائيلي، لا يمكن للمنطقة العربية أن تتعايش في فلك المشاريع المذكورة بصفة تقترب من أن تكون الفاعل وتبتعد عن صفة المفعول، دون أن ترسم لنفسها مساراتٍ منسقة وواضحة.
هذا مأمولٌ كبير، إلا أنّه ممكن؛ فهو ضرورةٌ لازمة للوجود العربي والاستقرار العربي، فبالرغم من الصعوبات التي نراها اليوم بجلاء كامل، يمكن أن تكون هذه بداية فرصة تاريخية.