النظام العربي الجديد من محاباة الأيدولوجيا إلى الواقعية.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

حدثان مهمان أثرا بشكل كبير وجوهري على المنظومة العربية منذ 2011: أولًا، الربيع العربي وثانيًا، الحرب على غزة وما تبعها من تغيرات عميقة، إذ وضع هذان العنوانان الدول العربية أمام أسئلة جذرية في طرق التعامل مع الأيدولوجيات، وفي العلاقات مع الحلفاء من الشرق إلى الغرب.

المنظومة العربية كانت تعتمد على مجاملة الأيدولوجيات ومحاولة احتوائها، وكان لكل دولة خصوصيتها وفردانيتها في التعامل مع هذه المنظومات الفكرية الجامدة، رغم محاولة الأخيرة الانقضاض على السلطة في معظم أقطار الوطن العربي، مرة تحت عنوان إسلاموي، أو يساري متظلّم يريد العودة إلى الأضواء بصيغة نصير الفقراء، أو ليبرالي يرى حقوق المواطن العربي على المسطرة الغربية، دعك من أن هذه التيارات الثلاثة قد تحالفت مع بعضها- رغم تناقضها- ضد الدولة الوطنية.

الراجح أن الدول العربية اختارت الفردانية الوطنية على مستوى الإدارة الداخلية، والجماعية التنسيقية على مستوى التعامل مع تهديدين مثل إسرائيل وإيران اللذَين جعلا من فلسطين ساحة للصراع؛ فقد ظهر جليًا أن التحركات العربية الجماعية في الأروقة الدولية، والأمم المتحدة، دفعت الولايات المتحدة الى التحرك بمعية عشرات الدول لإيقاف العدوان على غزة (مؤتمر شرم الشيخ)، وتضييق المساحات أمام إسرائيل؛ فالتنسيق كان واضحًا بين الأردن ومصر ودول الخليج على رأسها السعودية وترجمة كل شيء إلى لغة المصالح مع الولايات المتحدة كان مشهودًا.


إذن نحن اليوم أمام عقلية عربية جديدة، استخلصت العبرة من مجاملة الأيدولوجيات عن طريق ما سمي بالربيع العربي، وأدركت أن تجميع المصالح مع واشنطن والغرب يعطي وزنًا أعلى يضاهي وزن مصالحهم مع إسرائيل، وتملك هذه العقلية اليوم خبرة في تقدير وزن التحالفات مع أي دولة عظمى وبالتالي تنويع الخيارات والعلاقات.

الجيد أن الأردن مركزي في هذه المنظومة الجديدة، فقد تحرّك بذكاء في التعامل مع ملفي الربيع العربي والحرب على غزة، واستفاد بطريقة أو بأخرى من سقوط الأيدولوجيات التي لطالما ناصبته العداء ووجهت ضده أسوأ أنواع البروباغندا، ولا ننسى كأردنيين أن الأمر وصل من السوء والافتراء إلى مناقشة شرعية وجودنا، وكينونتنا، واتهامنا بالوظيفية كدولة.


أعتقد أن المطلوب منا في الأردن هو إدراك هذه التغيرات واستغلالها. وهذا ما يحدث على المستوى الاجتماعي-السياسي، إذ تظهر قوى وطنية تقوم بتطهير الفضاء العام من رواسب البروباغندا المعادية؛ فلا يخلو اليوم أي نقاش عام من تأكيد على عمق وجود هذه البلد، ومن نفي لجميع الافتراءات التي لحقت بدوره في قضايا المنطقة بالأدلة والإثبات. لكن في المقابل، فإن المستوى السياسي التطبيقي المتمثل بتكوين قوى سياسية (أحزاب) لم يكتسب بعد القوة التي تسمح له بأن يستفيد من إنجازات الدولة بقيادة جلالة الملك عبد الله خلال امتحانين الربيع العربي والحرب على غزة، ولا من تغيرات المنطقة التي تعتبر فرصة للأردنيين.

المؤشرات تقول أن المنطقة ستعود إلى نظام دولة مقابل دولة، وأدوات اللعبة ستكون العلاقات الدولية والمصالح، فلا تعدي على سيادة الدول، ولا مليشيات تخطف القرار، لذلك كله، أرى أن الأردن والدول العربية أمام فرصة تاريخية للوصول إلى الازدهار والسلام، بالخروج من تبعات التفاعلات السياسية التي تأسست بداية القرن الفائت (بعد سقوط الدولة العثمانية) والوصول إلى شكل جديد من الإدارة يعيد لنا وضعنا الحقيقي بين الأمم.