أي رسائل تحملها زيارة شخصيات أردنية للشرع؟

نبض البلد -

حاتم النعيمات

زيارة وفد أردني إلى دمشق ولقاؤه بالرئيس الانتقالي أحمد الشرع لم تكن مجرد خطوة بروتوكولية بتقديري، ولا حتى مبادرة عابرة على هامش الأحداث، بل هي تعبير عن إدراك أردني عميق لطبيعة العلاقة مع سوريا، تلك العلاقة التي تفرضها بالجغرافيا والمصالح؛ فسوريا ليست ملفاً يمكن وضعه في الأدراج أو تجاهله، بل هي معطى استراتيجي تفصيلي يومي، يفرض نفسه على القرار السياسي وعلى حركة الدولة.

الأردن يتحرك في هذا الملف من منطلقين أساسيين، الأول هو منطلق الأمر الواقع: نحن تتقافز الأزمات على الطرف الآخر من حدودنا مع سوريا بشكل يؤثر علينا، سواء تعلق الأمر بتهريب المخدرات، أو بحركة الجماعات المسلحة، أو بالتحركات الإسرائيلية في الجنوب السوري (وهذه الأخيرة خطيرة)، فإن الأردن لا يستطيع أن يلتزم الحياد. التعامل مع الواقع يعني أن تفتح القنوات مع جميع الأطراف، بما في ذلك الحكومة السورية الحالية، ومهما كانت الخلافات أو التباينات.

المنطلق الثاني يقوم على فكرة أن القطيعة مع الحكومة السورية الجديدة لن تجلب للأردن أي منفعة؛ فلا يوجد من تخاطبه في دمشق سوى هذه الحكومة، التي لا تزال تمسك بزمام القرار في هناك. والتجاهل يعني بيساطة ترك الساحة فارغة أمام لاعبين آخرين لا يراعون بالضرورة مصلحة الأردن. لذلك، فإننا معنيون بأن نبقى على اتصال لرصد سلوك دمشق على المدى القصير والطويل. وهنا تظهر أهمية التجربة الأردنية في قراءة تحولات الجماعات الأصولية التي تحكم دمشق، والتي لم تقدم لغاية اليوم أم مراجعة فكرية حقيقية على غرار الجماعة الإسلامية في مصر على سبيل المثال. ولنتفق أن مثل هذه الجماعات قد تغيّر خطابها وسلوكها بعد ما تسميه "مرحلة التمكين”، وهذا يحتّم علينا أن نبقى حاضرين هناك بأي شكل من الأشكال، فالمتابعة اللصيقة أفضل بكثير من ترك الأمور للمفاجآت.

سوريا بالنسبة للأردن ليست مجرد جار، بل دولة محورية تؤثر في عمق الاستقرار الأردني، أي اضطراب هناك سرعان ما يتردد صداه في الداخل الأردني، سواء عبر الحدود أو عبر شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. من هنا يمكن فهم طبيعة الوفد الذي زار دمشق والذي تكوَّن من شخصيات مشتبكة وفاعلة بالشأن العام، خاضت في تفاصيل أزمات المنطقة لسنوات طويلة، وعرفت جيداً ما الذي يعنيه السلوك الإيراني والإسرائيلي والتركي في الميدان السوري. باعتقادي لم تذهب هذه الشخصيات الوازنة لالتقاط الصور أو تسجيل المواقف، بل لحمل رسائل وشروحات مفصلة عما يريده الأردن، وربما أيضاً استمعوا مباشرة لما يمكن أن يقدمه السوريون في هذه المرحلة.

السياسة الخارجية الأردنية تتحرك كما عهدناها بميزان دقيق؛ فهي تدرك أن الجغرافيا تحكمها أكثر مما تحكم الآخرين ضمن محددات كثيرة أهمها العلاقة مع واشنطن، وكيفية إدارة سلوك إسرائيل بعد السابع من أكتوبر. هذه الحساسية تجعل أي خطوة أردنية تجاه سوريا محكومة بواقعية سياسية عالية: لا مجال للمجازفة، ولا مكان للقطيعة التامة، ولا خيار سوى الانفتاح المدروس على كل الأطراف.

الزيارة الأخيرة تحمل أكثر من إشارة: أولها أننا منفتحون على كافة المستويات، لكننا في الوقت ذاته نراقب ونقرأ ونحسب. وثانيها أن الحوار المباشر مع القيادة السورية الجديدة يظل الطريق الأقصر لفهم ما يجري بعيداً عن أي وسطاء أو تأويلات. وهذه الإشارات بمحصلتها تفيد بأن الأردن يتحرك بصيغة الفعل وليس رد الفعل إلى حد كبير.

إن تعرُّض الشخصيات المحترمة التي زارت الشرع للنقد غير الموضوعي وكأنها ارتكبت خطيئة لا يخلو من قصر النظر، فالموضوع اليوم لا يخضع للمطابقات الأيدولوجية بقدر ما يخضع للواقعية السياسية، ولأكون صريحًا، فأنا لا ألوم من انتقد الزيارة من ناحية "عدم الإطمئنان" لسلوك حكام سوريا الجدد على المدى البعيد، لكني ألوم بقوة من انتقد الزيارة من باب الولاء لحُكم الأسد المخلوع، ولكي لا يقول قائل أنني أبحث في النوايا، فالجميع يعرف تلك الزمرة التي ساندت السفير السوري الأسبق بهجت سليمان في هجومه على الأردن قبل سنوات، هؤلاء لا تهمهم مصلحة الأردن بقدر ما يهمهم التمسك بأحبال الوهم والخرافة السياسية.