نبض البلد - عماد عبدالقادر عمرو
رئيس مجلس محافظة العقبة سابقًا
في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيير، لم يعد النجاح في سوق العمل مرهونًا حصريًا بشهادة جامعية أو مسار تعليمي تقليدي.
فالمعادلات القديمة التي طالما ربطت بين التأهيل الأكاديمي والجدارة المهنية بدأت تتآكل أمام واقع جديد، تفرضه الحاجة إلى الكفاءة الحقيقية، لا مجرد أوراق الاعتماد. وفي هذا السياق، تبرز معادلة الخبرات المهنية ليس فقط كخيار تقني أو تنظيمي، بل كمفهوم إصلاحي يرتبط بعدالة الفرص، ومكانة العمل، وقيمة الإنسان في الاقتصاد المعاصر.
إن الاعتراف بالخبرة المكتسبة عبر التجربة، والعمل، والتعلُّم الذاتي هو اعتراف بالجهد والإنجاز، بقدر ما هو محاولة لسد فجوات عميقة بين ما يُنتج في قاعات الدراسة، وما يتطلبه واقع الإنتاج والعمل. وقد آن الأوان لأن نخوض هذا التحول بشجاعة، وبوعي بأننا أمام مسألة تتعلق برأس المال البشري قبل أن تكون قضية تعليمية أو إدارية .
من أكبر تحديات التشغيل في الأردن – كما في العديد من الدول النامية – تلك الفجوة التي تتسع يومًا بعد يوم بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق. جامعاتنا تخرّج آلاف الشباب كل عام، لكن كثيرًا منهم يفتقرون إلى المهارات التطبيقية التي يتطلبها أصحاب العمل. ما يُنتج على الورق لا ينعكس بالضرورة في الأداء العملي.
هنا تتبدى أهمية معادلة الخبرات كأداة لسد هذا الفراغ. فهي تسمح بإعادة تعريف الكفاءة على أساس ما يُتقنه الفرد لا ما يحمله من شهادات. إنها دعوة إلى نقل مركز الثقل من الشكل إلى الجوهر، ومن التعليم كحضور صفي إلى التعلم كإنجاز ملموس.
معادلة الخبرات المهنية تتجاوز بعدها المهني لتلامس صميم العدالة الاجتماعية. فأن يُمنح الإنسان فرصة لإثبات كفاءته انطلاقًا من تجربته، لا من خلفيته التعليمية أو طبقته الاجتماعية، هو شكل من أشكال رد الاعتبار لقيمة العمل وتراكم المعرفة عبر الممارسة.
في مجتمعاتنا، كثيرون اضطروا لترك التعليم لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، لكنهم راكموا خلال السنوات مهارات عالية في مجالات متنوعة. هؤلاء يظلون على هامش الاعتراف المؤسسي، ويُحرمون من فرص حقيقية للنمو والاندماج الكامل في الاقتصاد الرسمي. إن الاعتراف بخبراتهم ليس منّة، بل ضرورة لبناء عقد اجتماعي أكثر توازنًا وشمولًا.
من بين النماذج العالمية التي تستحق التأمل، تأتي التجربة الفرنسية في نظام VAE (Validation des Acquis de l’Expérience) كواحدة من أكثر المبادرات نضجًا في مجال معادلة الخبرات المهنية. فقد أقرّت فرنسا منذ عام 2002 تشريعًا يُتيح لأي شخص يمتلك خبرة عملية لا تقل عن عام واحد في مجال معين، أن يتقدم بطلب للاعتراف بهذه الخبرة وتحويلها إلى شهادة رسمية معترف بها من الدولة.
هذا النظام لا يقتصر على مهن محددة، بل يشمل طيفًا واسعًا من القطاعات، كالصحة والتعليم والخدمات والتقنيات، مما جعله أداة فعالة في دمج الفئات غير الأكاديمية ضمن سوق العمل الرسمي. وبحسب تقارير وزارة العمل الفرنسية، فقد ساهم هذا النظام في فتح أبواب الترقية والتثبيت الوظيفي لآلاف الأفراد، دون أن يضطروا للعودة إلى المقاعد الدراسية أو الخضوع لمسارات طويلة ومكلفة.
الميزة الجوهرية في هذه التجربة ليست فقط في إتاحة الفرصة، بل في المنظومة المهنية المصاحبة لها: لجان تقييم مستقلة، معايير شفافة، وإشراف حكومي حريص على ضمان المصداقية. لقد نجحت فرنسا في تحويل الاعتراف بالخبرة من استثناء إلى حق، ومن إجراء بيروقراطي إلى وسيلة لبناء مجتمع أكثر عدالة وانسجامًا بين التعليم والعمل.
ما يُمكن أن نستفيده من هذه التجربة، ليس بالضرورة نسخها بحذافيرها، بل استلهام منطقها: تثمين التجربة الإنسانية، وتصحيح العلاقة بين المهارة والاعتراف المؤسسي، وتوجيه السياسات الوطنية نحو الإنسان بما هو فاعل ومنتج، لا مجرد متلقٍ للتعليم.
خلال سنوات عملي في رئاسة مجلس محافظة العقبة، كان لي تماس مباشر مع واقع الشباب، من خريجي الجامعات ومن الذين لم تُتح لهم فرص التعليم الرسمي. رأيت كيف يُمكن لتدريب بسيط وموجّه أن يغيّر مصير شاب، وأن ينقله من خانة الباحث عن عمل إلى خانة صاحب المبادرة والمشروع. وشهدت بأمّ عيني كيف أن كثيرًا من أصحاب المهارات العملية، ممن لا يحملون أي شهادة، يفوقون أداءً أولئك الذين يمتلكون أوراق اعتماد دون ممارسة حقيقية.
هذه التجربة جعلتني أكثر قناعة بأن أحد أكبر مظاهر الهدر في بلادنا هو هدر الكفاءة التي لا نراها لأنها لا تحمل ختمًا رسميًا.
هيئة الاعتماد وضمان الجودة: نواة التحول المؤسسي
خطت الدولة الأردنية مؤخرًا خطوة مهمة بإنشاء هيئة الاعتماد وضمان الجودة، وهي خطوة تُؤسس لتحول جذري في كيفية النظر إلى الكفاءة والمعرفة المهنية. هذه الهيئة تُعد اللبنة الأولى في بناء منظومة وطنية عادلة لتقويم الخبرات والمعارف المكتسبة من خارج النظام الأكاديمي، وهي معنية بتأسيس معايير واضحة، وعمليات تقييم منصفة، وآليات اعتماد تستند إلى المهارة لا الورق.
لكن نجاح الهيئة لا يتوقف على التأسيس القانوني فقط، بل يتطلب تعزيز حضورها المجتمعي من خلال حملات تعريف وتوعية واسعة، لتصبح معروفة لدى أصحاب المهن، والباحثين عن الاعتراف، وأرباب العمل على حد سواء. كما أن وجود فروع للهيئة في المحافظات، خاصة في المناطق التي تشهد تركّزًا عاليًا للعمالة الفنية مثل محافظة العقبة هو ضرورة لا بد منها، إذ لا يُعقل أن يبقى الاعتراف محصورًا في المركز، فيما الكفاءات الحقيقية تُنتج في الأطراف.
لتمكين معادلة الخبرات المهنية، نحن بحاجة إلى تشريعات مرنة، وأدوات تقييم موضوعية، وشراكة حقيقية مع القطاع الخاص، الذي يُعد الطرف الأكثر دراية بما يحتاجه السوق. كما يجب أن يُنظر إلى هذا الملف باعتباره قضية تنموية لا إدارية، وأن يُدرج ضمن سياسات التشغيل والتدريب، لا كملحق ثانوي بها.
إن بناء منظومة وطنية لمعادلة الخبرات يعني أن نؤسس لثقافة جديدة ترى في المهارة رصيدًا وطنيًا، وفي التجربة مدرسة لا تقل شأنًا عن الجامعة.
في النهاية، معادلة الخبرات المهنية ليست مجرد وسيلة لإصلاح اختلالات سوق العمل، بل هي خطوة في اتجاه إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، بين المعرفة والاعتراف، وبين الجهد والمكانة. إنها وسيلة للعدالة، ولتحرير الإمكانيات الكامنة التي تظل حبيسة الظل، فقط لأنها لا تحمل ختمًا رسميًا.
وإذا أردنا مستقبلًا أكثر إنتاجية وعدالة، فعلينا أن نبدأ من هنا: من الاعتراف بالخبرة كقيمة وطنية، ومن إرساء حق كل فرد في أن يُقوَّم على أساس ما يعرفه وما يُتقنه، لا على ما يملكه من أوراق فقط.