نبض البلد - حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
تخيّل هذا المشهد: شاب أردني يرتدي عباءته الجامعية، يتجوّل بين مختبرات الكيمياء في إحدى الجامعات الأردنية، يحمل في يده دفتر ملاحظات مليء بالمعادلات والرموز، وبين عينيه يسطع بريق شغفٍ لا يُطفأ. اسمه جابر. لكن ليس أي جابر، بل هو جابر بن حيّان، العالم الذي لقب بأبي الكيمياء، يقف اليوم بيننا، في رحاب جامعة أردنية، يشقّ طريقه لا في كتب التراث فحسب، بل في الحاضر والمستقبل.
ماذا لو نشأ جابر في عمان أو إربد أو الكرك أو معان؟ ماذا لو جلس على مقاعدنا، واستمع إلى محاضرات أساتذتنا، وشارك زملاءه مشاريعه وأحلامه؟ ماذا لو كان يتنقل بين مختبراتنا، ويستخدم أدواتنا، ويكتب أبحاثه بلغتنا، ويحلم بلغتنا، ويبتكر بلغتنا؟ ماذا لو كانت عبقريته تتغذى من هواء الأردن، ومن طموحات شبابه، ومن بيئة تعليمية تشجّعه وتحتضن فضوله؟
في أعماق كل شاب وشابة أردنيين، هناك شيء من جابر. هناك فضول يريد أن يطرح السؤال الذي لم يُطرح بعد. هناك خيال يتحدى ما هو ممكن، وعقل يبحث عن الامل وسط الفوضى. هناك نفسٌ مؤمنة بأن لها دورًا، حتى لو لم تُسلط عليها الأضواء بعد.
جابر لم يكن مجرد عالم كيمياء، كان صاحب رؤية، كان رجلاً لم يرضَ أن يبقى العلم حكرًا على الألواح الجامدة، بل سعى لتحويله إلى تجربة حية، وواقع قابل للتطبيق. وهذا ما يمكن أن يكون عليه الشباب الأردني اليوم. ما أكثر جابرينا الذين يسيرون اليوم في أروقة جامعاتنا، يحملون طموحات كبرى، ويبحثون عن لحظة كشف، أو نقطة تحوّل. ربما لا نعرف أسماءهم الآن، لكن غدًا قد نقرأها على براءات الاختراع، أو نراها محفورة على أجهزة تُنقذ الأرواح، أو تُسهّل الحياة.
لنتخيل المشهد مرة أخرى، لكن هذه المرة نوسع العدسة: لا نراه وحده، بل معه زملاؤه، شباب من مختلف محافظات الأردن، يعملون كفريق، يدمجون بين التكنولوجيا والطب، بين الذكاء الاصطناعي والبيئة، بين التراث والتجديد. في كل زاوية منهم، بصمة من هذا الوطن. لديهم شغف لا يتوقف عند التخرج، بل يبدأ به. فالحياة بالنسبة لهم ليست وظيفة تنتظرهم، بل فكرة تنتظر أن تتحقق.
إن الحديث عن جابر بن حيّان في سياق جامعاتنا الأردنية ليس ترفًا فكريًا، بل هو دعوة حقيقية لإعادة النظر في نظرتنا لأنفسنا. لأن فينا من الموهبة والقدرة ما يجعلنا نعيد تشكيل المستقبل، لا أن ننتظر أن يُشكل لنا. جامعاتنا الأردنية مليئة بالعقول النابغة، والأساتذة المخلصين، والطلبة الذين ما زالوا يؤمنون بأنّ المعرفة ليست مجرد علامات، بل مسؤولية وأمانة ورسالة.
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا، وتتشكل فيه وظائف لم تكن موجودة قبل سنوات، لم يعد السؤال: "ماذا ندرس؟"، بل "كيف نبتكر؟". والشاب الأردني الذي يملك اليوم هاتفًا ذكيًا، يستطيع أن يبني عليه مشروعًا ذكيًا. والذي يكتب سطر كود في مقهى صغير، قد يطلق تطبيقًا يغير حياة الآلاف. ومن يجلس في زاوية مكتبة، يقرأ بهدوء، قد يكون غدًا مؤسسًا لمختبر يقدّم حلولًا للعالم.
إننا لا نفتقر إلى العباقرة، بل أحيانًا نفتقر إلى من يراهم. ومن واجبنا جميعًا—جامعات ومؤسسات وإعلام وأفراد—أن نعيد تشكيل البيئة التي تسمح لهذه العقول أن تلمع، وتخترع، وتساهم. أن نؤمن بأن التغيير يبدأ من داخلنا، وأننا حين نزرع الثقة في طلابنا، نمنحهم ما هو أكثر من شهادة: نمنحهم شعورًا بأنهم قادرون على ترك أثر.
لو كان جابر بيننا اليوم، هل كان سيجد الطريق ممهّدًا؟ ربما لا، لكنه حتمًا سيصنع طريقه. ونحن نعلم أن في الأردن شبابًا وشابات يصنعون كل يوم طريقهم، رغم التحديات، رغم الإمكانيات المحدودة، رغم الانتظار الطويل. يصنعونه بالاجتهاد، بالإيمان، بالإبداع. هؤلاء هم أمل هذا الوطن، لا لأنهم يحلمون فقط، بل لأنهم يعملون من أجل أن تتحقق أحلامهم.
ولعل أجمل ما في الحلم الأردني أنه لا يعرف المستحيل. من صحراء الجنوب، إلى جبال الشمال، ومن قرى الأغوار إلى أحياء العاصمة، هناك قصص تولد كل يوم. قصص لا تجد طريقها دومًا إلى العناوين الكبرى، لكنها موجودة في ابتسامة شاب اجتاز تحديًا، وفي فكرة طالبة استطاعت أن تطور مشروع تخرجها إلى منتج حقيقي، وفي ورشة صغيرة تحوّل الحديد إلى أدوات ذكية، وفي مختبر بسيط يولّد منهجًا جديدًا للتعلم.
العبقرية لا تُقاس بعدد المتابعين، ولا تُحصر في أسماء الماضي فقط. هي حاضر نعيشه، ومستقبل نبنيه. وهي في قلب الشاب الأردني، الذي لا ينتظر فرصة من الخارج، بل يصنعها من الداخل. الذي لا يُحب أن يُقال عنه فقط: "كان ناجحًا"، بل "نفع غيره". تمامًا كما فعل جابر.
وفي النهاية، لعلنا نتوقف عن التساؤل "ماذا لو كان جابر من خريجي جامعاتنا؟"، ونسأل بدلًا من ذلك: "من هو الجابر الجديد الذي يجلس اليوم بيننا؟ وماذا سنفعل نحن، لنعينه على أن يكتب تاريخه؟".