"حق المشاهدة": صراعٌ يبتلع القانون..ويمزق الروابط بأحكامٍ معلّقةٍ في ساحات الانتظار

نبض البلد -
"حق المشاهدة": صراعٌ يبتلع القانون..ويمزق الروابط بأحكامٍ معلّقةٍ في ساحات الانتظار
د.دانا خليل الشلول
في الأردن، حيث تتصادم النصوص القانونية مع واقع التطبيق للعدالة التي يسعها إليها القانون والقضاء، تتكشّف قصص إنسانية مؤلمة تسلط الضوء على الصراع المرير للأطراف غير الحاصلين على حضانة أطفالهم، وخاصةً للأمهات المطلقات في سبيل الحفاظ على أواصر عائلاتهن، أو علاقاتهن مع أبنائهنَّ، تُجسد هذه القصص بتفاصيلها القاسية رحلة طويلة في مواجهةِ عنادٍ أسريٍّ لا يلين، وتحديات اجتماعيّة متتالية، في سعيهن المضني لرؤية أطفالهم؛ حيث تروي هذه التجارب قصصاً لتحويل الأمومة إلى معركة مستمرة، تكشف عن الحاجة الماسة لإعادة النظر في القوانين التي قد تقف حائلاً دون أقدس الروابط الإنسانية.
بدأت هنا مها (اسم مستعار) سيدة في العقد الرابع من عمرها تروي قصة معاناتها في مشاهدة ابنتها "كان عمر ابنتي ثلاث سنوات تقريباً عندما انفصلت عن والدها، حينها، وجدتُ نفسي في موقف بالغ الصعوبة؛ لم أكن أمتلك أي مؤهلات في الحياة؛ لا شهادة جامعية، ولا حتى وظيفة، أو أي سند مالي، ولا حتى أسري، فقد أرغمني والدي على الزواج بعد نجاحي بالثانوية العامة مباشرةً؛ حيث كان عمري (18) عاماً، وبعد طلاقي تقدّمتُ بطلب حضانة ابنتي، وهو حق كفلته لي القوانين، لكن والد الطفلة اشترط التنازل عن أي نفقة مادية مقابل حصولي على الحضانة؛ 'الحضانة لكِ، والمسؤولية المادية عليكِ'، هكذا كانت شروطه."
"وحين وقع هذا الكلام القاسي علي كالصاعقة حاولتُ الاستعانة بوالدي، لدعم موقفي في المطالبة بالنفقة القانونية لابنته من خلال القانون؛ لكنّه رفض الدخول في نزاعات قضائية بشكل قاطع، وقال لي بوضوح: "أنا مش مستعد أدخل بمحاكم عشان أوجع راسي بولاد الناس وأتحمل مسؤوليتهم، كُبّي بنته عليه!". هذه الكلمات، وذاك الموقف، تركاني بلا سند أو أهل يدعمونني في تلك المرحلة الحرجة؛ كنتُ وحيدة، بلا وظيفة، بلا شهادة، وبلا مال، وكانت والدة طليقي، (حماتي سابقاً)، شخصية مسيطرة للغاية وكثيرة التدخل في كل تفاصيل حياتنا، وكان لها دور كبير في قرار الطلاق نفسه، وبدا واضحاً أنَّ تأثيرها السلبي سيستمر في كل ما يتعلق بابنتي الوحيدة، وبسبب هذا الوضع المعقد، انتقلت حضانة ابنتي إلى جدتها وجدها من جهة الأب، لتعيش بين القادم والمغادر من أعمامها وعماتها في بيت العائلة؛ حيث أنَّ والدها يعمل خارج الأردن، مما يعني أنه لم يكن موجوداً بشكلٍ دائمٍ ليقوم على رعايتها المباشرة، وهذا الوضع فصلني عن ابنتي منذ سنواتها الأولى."
وتابعت مها كلامها بدموعٍ وقهر "مرت سنوات طويلة لم أرى فيها ابنتي، كانت محاولاتي المتكررة للتواصل أو لترتيب زيارات تقابل بالرفض المتواصل من طرف عائلة طليقي؛ خاصةً في ظل غياب دعم والدي، حيث كانت والدة طليقي هي الطرف المتحكّم في هذه المسألة لتنتقم مني هي وطليقي، ولم يكن هناك أي قناة تواصل فعالة، وهذا الانقطاع استمر لعدة سنوات، لم تتمكن فيها ابنتي من بناء أي رابط مباشر معي كأم."
وأكملت مها حديثها "بعد فترة طويلة من الانتظار الذي لم يأتِ بجديد على صعيد علاقتي بابنتي أو طليقي، وانتظاري لمحاولات من طليقي لإعادتي لعصمته لأقوم بتربية ابنتي وضمها تحت كنفنا، أيقنت أنَّ انتظاري دون جدوى وأنني قد خسرت زواجي وابنتي معاً؛ وهنا قررتُ المضي في حياتي وتزوجتُ مرةً أخرى؛ هذا الزواج، ورغم أنه كان خطوةً شخصية ومبررة، فاقم من الوضع مع عائلة طليقي، فقد استخدموه كذريعةٍ إضافيّة لزيادة منعي عن ابنتي، مدَّعين أنني 'تخليتُ' عنها بزواجي، وأنّهم كانوا يخططون لإعادة علاقتي مع طليقي لكن بعد "تأديبي"، وأنَّه لا يجوز أن تتصل ابنتي برجل غريب (زوجي الجديد)؛ رغم أنَّ زوجي الجديد يعمل أيضاً خارج الأردن، ولا يأتي إلى البلاد إلا مرة أو مرتين في السنة لمدة لا تتجاوز الأسبوعين وبالتالي، لم يكن هناك أي وجود لرجل غريب في حياة ابنتي، ومع ذلك، استمروا بمنعي من حق الرؤية والمشاهدة؛ إلا أنني وبمساعدةٍ من زوجي، الذي أمدني بالدعم المعنوي والمادي، قررتُ اللجوء إلى القضاء لفرض حقي القانوني في رؤية ابنتي خاصةً أنَّ زوجي كان مدركاً لعذابي وألمي بسبب عدم رؤيتي لابنتي، فكانت هذه الخطوة بمثابة نقطة تحول، بعد سنوات من الاستسلام للوضع الراهن، وبعد رفع القضية، حصلتُ على حكم قضائي لرؤية ابنتي؛ لكن تطبيق هذا الحكم كان تحدياً بحد ذاته؛ حيث أنَّ القانون الأردني يتيح للحاضن ثلاث فرص للتخلف عن تسليم المحضون في مواعيد الرؤية المحددة، قبل أن يصدر بحقه إنذار حبس أو إجراءات تنفيذية أشد، ليأتي هنا طليقي مستغلاً هذه الثغرة بشكل منهجي ومستمر، وفي كل مرة كنتُ أقطع المسافات الطويلة من محافظة إقامتي إلى المحافظة التي تعيش فيها ابنتي برفقة والدتي الكبيرة في السن على أمل أن أحتضن ابنتي وأطمئن عليها، ورغم كل هذا الجهد والتعب، كان الرفض هو سيد الموقف في كثير من الأحيان عند وصولنا لأخذ ابنتي، حيث كانوا يقومون بتسليم ابنتي لمرّة واحدة من أصل ثلاثة، وهذا يعني أنني كنتُ أضطر للانتظارللذهاب للمحكمة لأثبت حالة عدم التسليم، لتبدأ الدورة من جديد في كل مرة؛ وبالتأكيد هذا الإجراء كان يستنزف الوقت والجهد والموارد، ويجعل من لقائي بابنتي حدثاً نادراً ومتقطعاً؛ فهذه اللقاءات القصيرة هي فرصتي الوحيدة للتواصل مع ابنتي، وهي لا تكفي بأي حال لبناء علاقة قوية ومستقرة بين أم وابنتها."
 وأنهت مها قصتها "حتى اليوم، أجد نفسي في صراع مستمر مع الواقع القانوني والاجتماعي، فمعركة رؤية ابنتي لم تنتهِ بعد، رغم كل الأحكام القضائية الصادرة لصالحي، فهذه الحالات المنشرة بين الأطراف غير الحاضنين سواء كانوا رجالاً أو نساءً تُبرز الحاجة الملحة إلى مراجعة بعض الجوانب القانونية المتعلقة بقضايا الحضانة والرؤية في الأردن، لضمان حقوق الطفل والطرف غير الحاضن بشكل أكثر فاعلية وإنسانية؛ وذلك من مبدأ أنَّ الأمومة ليست رفاهية يمكن التنازل عنها، بل هي حق أساسي ورابط لا يمكن أن يكسره العناد أو الثغرات القانونية."
وفي هذا الشأن، أوضحت الخبيرة النفسية الدكتورة شادية خريسات أثر هذا الموضوع نفسيّاً "تُعد العلاقة المنتظمة مع الطرف غير الحاضن أحد المقومات الأساسية لحماية الطفل نفسياً بعد الانفصال، سواء كان هذا الطرف هو الأب أو الأم. ومع ذلك، فإن الانقطاع في المشاهدة أو تقطّع فتراتها، لا سيما عندما تكون الأم هي الطرف غير الحاضن، يترك أثراً نفسياً عميقاً على الطفل، يمتد إلى مراحل عمرية لاحقة ويؤثر على بنائه العاطفي والاجتماعي، فالأم في الوعي النفسي المبكر للطفل، وغالباً ما تمثل الأمان العاطفي والرعاية الأولية، وانفصالها المفاجئ أو حضورها المتقطع يولّد شعوراً داخلياً بالخسارة المستمرة، وكأن الطفل فقد جزءً من ذاته، وهذا الغياب لا يُعوض عبر زيارات متفرقة، بل يرسِّخ لدى الطفل إحساساً بعدم الاستحقاق أو الأمان أو الخوف من الفقد، مما قد يظهر لاحقاً في شكل علاقاته غير المستقرة، أو ميول اعتمادية مفرطة على الآخرين، أو تجنب عاطفي دفاعي.
وتابعت خريسات "وحتى في الحالات التي يكون فيها الأب هو الطرف غير الحاضن، فإن غياب حضوره المستمر لا يخلو من التأثير، إذ يفقد الطفل نموذج القوة والدعم الاجتماعي، ما قد يؤدي إلى صراعات داخلية تتعلق بالهوية والانتماء، خاصة في مراحل التكوين النفسي الحساسة كالمراهقة؛ ومع ذلك، يبقى غياب الأم أكثر تعقيداً على المستوى العاطفي، لأن الطفل يرتبط بها في مرحلة ما قبل الوعي كامتداد طبيعي للذات، وأي تذبذب في هذه العلاقة ينعكس على تصور الطفل للأمان، والقبول، والحب غير المشروط، وبذلك فإن استمرار العلاقة مع الطرف غير الحاضن، وتنظيم الزيارات بطريقة منتظمة وداعمة عاطفياً، ليس ترفاً قانونيّاً، بل هو حق نفسي أساسي للطفل، وضرورة مُلحّة لحماية توازنه النفسي ونموه السليم على المدى الطويل."
وفي سياقٍ متّصل؛ أوضح المستشار القانوني وخبير حقوق الإنسان الدكتور أيسر القيسي أن التعسف في استعمال حق الحضانة هو استخدام هذا الحق بطريقة غير مشروعة تضر بمصلحة الطفل المحضون؛ فالحاضن قد يحرم الطفل من مشاهدة أبيه أو جده وجدته ووالدته، مما يدفعه لقطيعة الرحم، وهذا محرم شرعاً لأنه يضر بالمحضون نفسياً؛ حيث أنَّ كل هذه الأفعال تخالف الغاية العظمى من الحضانة، وهي حفظ المحضون ورعايته ومراعاة مصالحه، خاصةً وأنَّ حق الرؤية والزيارة يشترك فيه المحضون وغير الحاضن من الأبوين، فرؤية الطفل لأبويه وزيارتهما له لها أثر بالغ في توطيد أواصر الرحم والمحبة بين المحضون وأبويه، ومنع الطرف غير الحاضن من رؤية المحضون يُعد ذنباً عظيماً وإثماً كبيراً شرعاً، ويتنافى مع المقصد الأسمى من الحضانة وهو مراعاة مصلحة المحضون.
وتابع القيسي؛ وقد نظم قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (15) لسنة (2019) وتعديلاته رؤية المحضون في المادة (181) منه،  وبموجب هذه المادة، يملك كل من الأب والأم الحق في مبيت المحضون بعد بلوغه السابعة من عمره لمدة خمس ليالٍ متصلة أو متفرقة في الشهر الواحد، وفي حال لم يبلغ المحضون سن السابعة، يحق لكل من الأب أو الجد للأب (في حال عدم وجود الأب) رؤية المحضون واصطحابه مرة في الأسبوع، بالإضافة إلى التواصل معه عبر وسائل الاتصال المتوفرة، وللجدات والأجداد الحق في رؤية المحضون مرة في الشهر، وإذا كان مكان إقامة الحاضن خارج الأردن، تحدد المحكمة المكان والزمان وكيفية مبيت المحضون ورؤيته، وذلك لمرة واحدة في السنة على الأقل، مع مراعاة مصلحة المحضون وسنّه وكذلك مصلحة طرفي الدعوى، على ألا يمنع ذلك صاحب الحق في رؤيته واصطحابه من مكان إقامته، أما في حال كان الحاضن مقيماً داخل الأردن، وصاحب حق الرؤية والمبيت خارجها، تحدد المحكمة عند حضوره للأردن مكان وزمان رؤية المحضون واصطحابه للمدة التي تراها مناسبة، مع مراعاة سنه وظروفه.
ونوّه القيسي أنَّه  في حالة منع الحاضن للأب أو القريب من مشاهدة المحضون أو اصطحابه، فقد عالجت المادة (183) من قانون الأحوال الشخصية الأردني هذه المسألة: فإذا امتنع الحاضن عن تمكين المحكوم له من المبيت أو الرؤية أو الاستزارة أو الاصطحاب أو الاتصال بالمحضون دون عذر، وتكرر تخلفه أو امتناعه بعد إنذار رئيس التنفيذ له، جاز لقاضي الموضوع بناءً على الطلب إسقاط الحضانة مؤقتًا ونقلها إلى من يليه من أصحاب حق الحضانة لمدة محدودة لا تزيد على سنة، بما يراعي مصلحة المحضون، وعلى من انتقل إليه حق الحضانة مؤقتًا تنفيذ حكم المبيت أو الرؤية أو الاستزارة أو الاصطحاب أو الاتصال كأنه صادر بحقه، كما أكد القيسي أنه في حالة عدم الاستجابة لقرارات المحكمة بمشاهدة الطرف غير الحاضن للمحضون، فإن قانون التنفيذ الشرعي لعام (2013) وتعديلاته عالج هذه المسألة في المادة (15) فقرتها الأولى، والتي نصت على أنه: على الرغم مما ورد في المادتين (13) و(14) من هذا القانون، يجوز حبس المحكوم عليه، إلى حين إذعانه، عند الامتناع عن تسليم الصغير أو عدم الالتزام بتنفيذ حكم الرؤية أو الاستزارة أو الاصطحاب، وذلك بناء على طلب المحكوم له.
وأخيراً يمكننا القول بأنَّ قضايا الحضانة والرؤية من المسائل الجوهرية التي تمسّ صميم استقرار الأسرة ومستقبل الأبناء، ورغم وجود الأطر القانونية، يظلّ التحدي الأكبر في مدى قدرتها على تحقيق العدالة الفعلية وحماية مصلحة الطفل الفضلى على أرض الواقع؛ وإنّ أي تعسّف في استخدام هذه الحقوق، أو وجود ثغرات تسمح بالتحايل، ويُحوّل ما هو قانوني إلى معاناة إنسانية. لذلك، من الضروري إعادة النظر في هذه التشريعات والإجراءات، لضمان تطبيق فعال يُحقق الإنصاف والمرونة، ويُعزز الروابط الأسرية بدلًا من قطعها. فالهدف الأسمى هو ضمان بيئة صحية ومستقرة للأطفال، بعيدًا عن نزاعات الكبار وتعقيدات القوانين.
*جميع حقوق النشر محفوظة لهذا التقرير والقصة الشخصيّة الواردة فيه.