العشيرة والدولة الحديثة: من الحاضنة الاجتماعية إلى رافعة وطنية

نبض البلد -
المهندس سعيد المصري
العشيرة ليست حزبًا سياسيًا
من المهم التأكيد أن العشيرة كيان اجتماعي متماسك، وليست أداة سياسية. وظيفتها الأصلية لا تكمن في الضغط السياسي أو التأثير الانتخابي، بل في صون القيم والمبادئ التي تشكّل القاعدة الأخلاقية لأي مجتمع سليم.

إن استخدام العشيرة في الخطاب السياسي، أو الزج بها في التنافس الحزبي، يسيء إلى رمزيتها، ويفرغها من دورها التربوي والقيمي، ويعرقل بناء دولة المؤسسات.
من الحماية إلى التمكين الوطني
لا يختلف اثنان على أن العشيرة ساهمت تاريخيًا في حماية أفرادها، ولكن المطلوب اليوم هو الانتقال من ثقافة الحماية إلى ثقافة التمكين؛ تمكين الأفراد للقيام بدور وطني شامل، يخدم الدولة والمجتمع، لا العشيرة فقط.

وهنا تبرز أهمية أن تكون العشيرة بيئة حاضنة للقيم الصحيحة التي تُخرج أجيالًا مؤهلة لقيادة الدولة الحديثة. فالعشيرة التي تُربي أبناءها على النزاهة، والانضباط، والعلم، والالتزام بالقانون، تُسهم بشكل مباشر في رفد الدولة بقيادات المستقبل القادرة على إدارة التحول السياسي والاقتصادي والأخلاقي للمجتمع.
أبناء العشائر: قيادات المستقبل لا أدوات نفوذ
ليس المطلوب أن يبقى أبناء العشائر أسرى للعصبيات أو للولاءات الضيقة، بل أن يُصبحوا قيادات وطنية شاملة تحمل على عاتقها مشروع الدولة العادلة والمنجزة. وهذا لا يتحقق إلا عندما يتسلح أبناء العشائر بالقيم الكبرى: الولاء للوطن، احترام التنوع، الكفاءة، والقدرة على تجاوز الهويات الفرعية لصالح المشروع الوطني الجامع.

فبناء الدولة الحديثة لا يعني إلغاء العشيرة، بل تمكين أبنائها من التحول من مجرّد "مُمثلين لعشيرتهم" إلى بناة حقيقيين لوطن يتسع للجميع.
بناء القيم الوطنية من داخل العشيرة
إن الدور الأصيل للعشائر لا ينبغي أن يُقاس بمدى قدرتها على التأثير في القرار السياسي أو تمثيل نفسها في مواقع السلطة، بل بمدى نجاحها في غرس القيم الصحيحة في نفوس أبنائها: كالصدق، والنزاهة، والالتزام، واحترام القانون، والولاء للوطن فوق كل ولاء فرعي.

فالعشيرة التي تُربي أبناءها ليكونوا مواطنين صالحين يخدمون المجتمع بكفاءة ونزاهة، هي عشيرة تقوم بدور وطني عظيم، يتجاوز مصالحها الضيقة نحو الصالح العام. هذا هو التحول المطلوب: من الولاء للعشيرة كغاية، إلى الانتماء للوطن كرسالة ومسؤولية.

وبذلك، تصبح العشيرة رافعة أخلاقية ومجتمعية ترفد الدولة بأجيال مؤمنة بالإصلاح والبناء، لا أداة لتعطيل الدولة أو تبرير الفساد أو الحشد خلف الهويات الفرعية على حساب المشروع الوطني الجامع.
النزاهة أولًا... والفساد لا يُبرَّر بالولاء
لا مستقبل لأي دولة إذا ما أصبح الولاء للعشيرة مبررًا للفساد أو المحسوبية. إنّ العدالة والمساواة أمام القانون هما حجر الزاوية في بناء الثقة بين المواطن والدولة، وإذا سمحت العشائر بتبرير التجاوزات فقط لأن "المخالف من أبنائها"، فإنها تسهم، عن غير قصد، في تآكل هيبة الدولة وتراجع فرص الإصلاح.

لذلك، يجب أن تكون العشيرة أول من يرفض الفساد، لا أن تُبرره أو تحمي مرتكبيه، وأن تدفع بأبنائها الأكفاء إلى خدمة الوطن، لا إلى الاستقواء عليه.
نحو معادلة وطنية جامعة
المطلوب اليوم ليس إقصاء العشيرة ولا تسييسها، بل صياغة معادلة وطنية متوازنة تُبقي على العشيرة كرافعة مجتمعية للقيم والانتماء، وتُخرج منها مواطنين يحملون مشروع الدولة الحديثة، لا مشروع العائلة الممتدة.

إننا بحاجة إلى أبناء عشائر من طراز جديد: يفتخرون بجذورهم، ويخدمون وطنهم، ويقودون التغيير من موقع الالتزام بالقانون لا من موقع الامتياز الاجتماعي أو النفوذ التقليدي.
العشيرة في خدمة الدولة، لا بديلًا عنها
الدولة الحديثة لا تُبنى بالقطيعة مع الماضي، بل بالفهم العميق لأدواته وتطويرها لتخدم المستقبل.

والعشيرة، بما تمثله من روابط أصيلة، قادرة إذا ما تم تأطير دورها بشكل صحيح، أن تُصبح رافعة وطنية كبرى تسهم في تجديد قيم المجتمع، وصناعة قياداته، وتحقيق وحدته الداخلية.

فلتكن العشيرة حاضنة للولاء الوطني، لا بديلاً عنه، ولننهض جميعًا بوطن يحتضن كل أصوله ومنابته في مشروع جامع لا مكان فيه إلا للكفاءة والنزاهة والالتزام.