نبض البلد - د.أيوب أبودية
شهدت العاصمة النمساوية فيينا في حزيران عام 2025 انعقاد أول مؤتمر يهودي مناهض للصهيونية بمشاركة مئات النشطاء والمفكرين اليهود من مختلف أنحاء العالم، تحت شعار يؤكد أن "إسرائيل لا تمثل جميع اليهود". دعا المؤتمر، الذي امتد لثلاثة أيام، إلى إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، وشدد المشاركون على أن انتقاد سياسات الاحتلال الإسرائيلي لا يُعد معاداة للسامية، بل هو موقف أخلاقي ضد القمع والتمييز والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، لا سيما في قطاع غزة.
أكد المؤرخ إيلان بابيه أن المؤتمر بعث برسالة إلى الغرب مفادها أن اليهودية ليست مرادفة للصهيونية، بينما شددت الناشطة كايتي هالبر على أن معارضة اليهود للصهيونية تنبع من إيمانهم بقيم العدل وحقوق الإنسان. واعتبر المؤتمر حدثًا فارقًا في فضح مزاعم إسرائيل بتمثيلها لجميع اليهود، من خلال أصوات يهودية ترفض الاحتلال وتدعو للعدالة للفلسطينيين.
وبهذه المناسبة استرجعت تقديم ايلان بابيه لكتابي " يهود ضد الصهيونية: أصوات من أجل العدالة"، الذي صدر عن دار الآن في عمان هذا العام، حيث قال إنه في العقد الأخير من القرن العشرين، ظهرت في إسرائيل ظاهرة ثقافية جديدة أطلق عليها معظم المراقبين "ما بعد الصهيونية". والمقصود بذلك هو أن مجموعة من العلماء والمثقفين والفنانين والكتاب اليهود الإسرائيليين، القادمون من جميع مناحي الحياة العملية، بدأوا في التشكيك في البديهيات الأساسية للصهيونية.
فبعد اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، تراجع بعض هؤلاء اليهود الإسرائيليين المنتقدين للصهيونية وتابوا عن انتقاداتهم، وعادوا إلى الأحضان الدافئة للأيديولوجية الصهيونية. لكن عدداً غير قليل منهم استمروا في التعبير عن انتقاداتهم، حتى لو أجبرهم ذلك على مغادرة إسرائيل. كذلك بدأنا نسمع انتقادات مماثلة بين اليهود في جميع أنحاء العالم.
وهكذا، أصبحت مقولة ما بعد الصهيونية مصطلحًا عامًا جدًا يُغطي طيفاً من وجهات النظر، بدءًا من معاداة الصهيونية لغاية الصهاينة الليبراليين. ولا يزال يشير إلى نشاطات الأكاديميين، والكتاب والمسرحيين والفنانين والصحفيين وغيرهم من الأشخاص الذين ينتجون المعرفة عن إسرائيل وفلسطين في الماضي والحاضر.
إن رحلة الخروج من الحدود القَبَلية، والتموضع خارج منطقة الراحة الخاصة بالفرد، ليست مسارًا سهلاً على الإطلاق. إذ يروي كتاب "يهود ضد الصهيونية" قصصاً عن مثل هذه الرحلات التي سوف تكون مألوفة لدى اليهود والإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم بشكل متدرج في صراع مباشر مع الصهيونية بكل مظاهرها.
لقد سلكت أنا، يقول بابيه، هذا الطريق نفسه، لذلك أود أن أضيف أن ما يبدو هنا أحيانًا كمقال أكاديمي محترف للغاية أو رواية مؤثرة للغاية، لا يتم إنتاجه دون بعض التردد من قبل مؤلفيه. أولئك الذين أكملوا رحلة الخروج من الصهيونية مثلي، سوف يدركون أنه لا طريق للعودة.
ما سوف يكون مثيرًا للاهتمام بالنسبة لقراء العربية، هو أنهم عندما ينظرون إلى شخص ما في الخارج باعتباره يهوديًا إسرائيليًا أو يهوديًا صهيونيًا ، فلن يكون الأمر كله من منظور كئيب وسلبي. فهناك أصدقاء لكم من الماضي، وهناك لحظات فرح، ولكن في المجمل، هذه مراجعة ناضجة لرحلة المعيش عند مستوى مريح داخل دولة فصل عنصري ترتكب جرائم يومية ضد الفلسطينيين منذ لحظة إنشائها في عام 1948، حتى بلغت حدا يصعب وصف شناعته في غزة.
وفي هذا الكتاب يُوسّع المؤلف الطيف ويجلب 67 قصة عن يهود من هذا القبيل، وبعضها لا يحكي بالضرورة قصة الرحلة، بل يعرض لمنتجات هذه الرحلة من مؤلفات ونشاطات عملية، التي تعطي الأمل للقارىء في أن هناك يهودًا داخل إسرائيل وخارجها قد يكونون شركاء في مصالحة حقيقية في المستقبل. .
كل هذه الأعمال المجمعة في هذا الكتاب، والأشخاص الذين يقفون خلفها، تُعدّ ذات صلة مباشرة لفهم الصورة الأكبر، خاصة عند التفكير في الدور الذي يمكن أن يلعبه اليهود من ذوي الضمائر الحية في مستقبل إحلال السلام وتحقيق المصالحة في فلسطين التاريخية.
ولا بد من الاشارة إلى أن هناك العديد من الأحداث المنفصلة التي تحدث في إسرائيل وفلسطين الآن، والتي تسارعت بسبب أحداث 7 أكتوبر 2023. هذه الأحداث في اعتقادنا لديها القدرة على تغيير الواقع على الأرض بطريقة جوهرية.
وتشمل هذه العمليات العزلة الدولية المتزايدة لإسرائيل، والتفكك الاجتماعي للمجتمع اليهودي الإسرائيلي من الداخل، وضعف الاقتصاد، وعدم قدرة الجيش على الدفاع بشكل صحيح عن الدولة ومواطنيها. وإحدى العمليات الإضافية المهمة والمتميزة هي التغييرات في موقف اليهود حول العالم، وخاصة مواقف الشبان اليهود الأمريكيين تجاه إسرائيل والصهيونية.
ومن المرجح أن ينمو أصحاب الاتجاه نحو التخلي عن الولاءات السابقة والتي كانت متمسكة بالصهيونية بشكل كبير، نظراً للطريقة التي تسيطر بها الصهيونية الجديدة على إسرائيل. كذلك من المرجح أن تنمو معها أيضاً الرغبة في المشاركة في عملية تصحيحية تاريخية، أي الانضمام إلى حركة التضامن مع الفلسطينيين.
ولمدة من الوقت، كانت عملية إعادة تعريف اليهودية في معزل عن الصهيونية ممارسة فكرية ومدرسية محض، ولكنها شرعت تتحول ببطء إلى موقف أخلاقي وسياسي لن يحدد اليهودية في المستقبل فحسب، بل سيحدد أيضًا الجماعة اليهودية في إسرائيل وفلسطين.
لا تُصنع الحقائق الجديدة من خلال الأفكار العظيمة والحركات الاجتماعية القوية فحسب، بل إنها تبدأ أيضًا بالرحلات الفردية للعديد من أولئك الذين يتم تجميع أعمالهم هنا وهناك، والتي سوف تكون جزءًا من شيء أكبر بكثير من مجرد تغيير في حياة فرد واحد.