الميثاق الوطني على الطريق…

نبض البلد -
المحامية هبة أبو وردة
الوعي السياسي الناضج، يعي تماما أن الأحزاب، هي مدارس سياسية، تزرع بذور المواطنة، وترويها بماء المسؤولية، حتى ينضج مفهوم الدولة، افتتح حزب الميثاق الوطني، مدرسته السياسية، واختار أن يلقي أول دروسه على سبورة الطرقات، ففتح كتبه على صفحات الوطن، وألقى أول "حصصه السياسية الحية"، حيث نقشت بين أصوات القلاع وصمت الأضرحة، وأعادت تعريف الحزب كفكرة، تجربة وجدانية وأداة تربوية تصنع الانتماء، وتهذب الحب حتى يصبح ناضجا.
الميثاق، في فعالية "المسار الوطني"، تخلى عن صورة المعلم الذي يتباهي بمفرداته، وسار في طريق رمزي، يحاور الذاكرة ويعيد تعريف الحزب من كونه صوتا في الانتخابات، إلى كونه صوتا في وجدان الناس، وبهذا فهو يطبق ما قاله أنطونيو غرامشي، في مقولته "السياسة هي الصراع على القيادة الأخلاقية والثقافية، لا على السلطة فحسب"، حيث ألقى درسا يمكن تسميته "هكذا يكون الحزب"؛ فالسياسة حين تدرس في الميدان، تصبح أكثر صدقا، وأكثر قابلية للفهم.
في زمن استهلك فيه الفعل السياسي من فرط الادعاء، اختار الميثاق لغة الخطوة الهادئة والمرنة، إدراكا منه أن السياسة حركة تلتصق بالأرض، بخطوات كثيرة، تسير فيها بجانب المواطن لا أمامه، تحفظ في الذاكرة، بكلمات قليلة، وليس بالشعارات الصاخبة التي ترفع على أكتاف؛ فالسياسة حين تفقد صوتها الداخلي، لا يمكن أن تستعاد بمكبرات الصوت، إنما بإذن ناعم يسمح له أن يكون جزءا من سردية المواطن.
لطالما كانت الرموز الوطنية  كصرح الشهيد، وجبل القلعة، وشجرة النبي، والمغطس، والبتراء محط تجاذب بين من يستخدمها لفرض هيمنة، ومن يقاطعها خوفا من الوقوع في التبعية، أعاد الميثاق أعاد إدخال الرمز إلى السياسة من باب المصالحة لا المناكفة؛ حيث زار المعالم في لحظة شعورية تفتح أبواب الوجدان الشعبي، وتربط الحزب بالمشترك الوجداني، وكأنه يقول الحزب يقف على الأرض التي تحمل ذاكرة الوطن دون أن يدعي احتكارها.
قدم الميثاق، درسا عميقا، بعنوان كيف تكون المشاركة السياسية الحقيقية؛ فيوم الاستقلال في الأردن يمثل لحظة سيادية بامتياز، في 25 أيار 1946، أعلن انتهاء الانتداب البريطاني، وتم الاعتراف بالمملكة الأردنية الهاشمية كدولة ذات سيادة كاملة، بقيادة هاشمية شرعية، ومنذ ذلك التاريخ، وهذا اليوم مناسبة تستثمر سنويا لتجديد العقد الوطني، وتحديث الرؤية السياسية.
بهذا المعنى، يمكن قراءة "المسار الوطني"، أيضا بأنه تموضع داخل الهوية السياسية للأمة، ومن هنا تتضح أهمية مشاركة الميثاق؛ فقد شارك بهذه المناسبة السياسية ذات الطابع الوجداني، كمن يعيد طرح الحزب كجزء من السردية السياسية للدولة، حيث مارس انتماءه للأردن بمسؤولية، وقد أعلن الميثاق موقعه، لا خصما للدولة، ولا تابعا لها، إنما شريكا وجدانيا في حمل الراية، وطرح السيادة الوطنية بمنطق المشاركة لا المناكفة.
"المسار الوطني"، سير على خريطة الانتماء، واخترق البنية العميقة للعلاقة بين الحزب والدولة، بين الذاكرة والهوية، بين المواطن والميدان، مما يمكن للقارئ السياسية وصفتها بأنها بيعة وجدانية صامتة، كتبت بين المعالم؛ فقد مر الميثاق بمحطات موزونة ومختارة بعناية، من صرح الشهيد وجبل القلعة في عمان، إلى قلعة الكرك، شجرة النبي، المغطس، جبل نيبو، البتراء، ووادي رم، حتى وصل العقبة، حيث رفعت الراية الأردنية على شاطئ البحر الأحمر.
بعين القارئ السياسي، يمكن القول إن الميثاق حقق أربعة محاور متكاملة، امتدت من الشكل إلى الجوهر، أعادت تعريف معنى أن تكون حزبا وطنيا في الأردن، أولها محور السياسة الناعمة، حيث المشاركة في يوم سيادي بامتياز، بلا مزادة بلا تراجع، بلا عدائية بلا حياد، لكنه تموضع في قلب الشرعية، معترفا بالدولة ومعمقا لمشروعها من الداخل، يربط مصيره بمصيرها لا بمنافعها، مرسخا بذلك معنى ما قاله الفيلسوف السياسي إدموند بيرك، "الحزب السياسي الناجح هو من يجعل مصلحة الوطن جزءا من مصلحته، لا العكس".
أما عن المحور الثاني، الشعبي الميداني، الميثاق لم يلقي خطابا على المواطن الأردني في قاعات فخمة، إنما ذهب إليهم في مدنهم، في معالم ذاكرتهم، في أماكنهم الأولى، وهكذا تبنى الثقة، بالحضور، بالملامسة، وبالاحترام الصامت للمواطن، هذه الحميمية الميدانية كسرت حاجز الغربة بين الحزب والشارع، وسارت به إلى عمق الانتماء الحقيقي.
محور الرمزية الوطنية، وهو المحور الثالث، الميثاق استخدم الرموز لا للصراع ولا للمناكفة، بل للمصالحة والربط، حيث أعاد إدراج الحزب في الحكاية الأردنية كعودة ناعمة إلى الأصل، وكحزب يعترف بالمشترك الرمزي والأرضية جامعة، واختتم الميثاق "حصته السياسية الحية"، بالمحور الرابع، الأيديولوجي الضمني، حيث لم يرفع راية اليمين ولا اليسار، ولم يتحدث بلغة المؤدلجين، إنما قدم نفسه كـ"صوت وطني جامع"، يحاول أن يخيط الفجوات بين الريف والمدينة، بين العشيرة والجامعة، بين الدولة والشارع.
حالة سياسية ثالثة، غير منغلقة على هوية أيديولوجية، حيث لم يصيغ الميثاق أهدافه ورؤيته، بمنطق المعارضة الصدامية ولا الولاء المطلق، إنما بمنطق الوطنية، الهدوئ، الشجاعة والوحدة، وهو بذلك يتقاطع مع ما أشار إليه فرانسيس فوكوياما، في مقولته "الأحزاب تصبح مؤثرة فقط حين تتخطى الانقسامات التقليدية وتعيد تمثيل المصالح الوطنية الكبرى"، بمعنى آخر بسطاء، عميقون ولا يصرخون، لكنهم لا يصمتون.
في زمن أنهكت فيه السياسة نفسها بالصراخ، جاء الميثاق ليهمس بهدوء، السياسة لا تمارس من فوق المواطن، ولا من منافذ العواطف المتعطشة، ولا تبدأ بالاعتراض، وهو بذلك نقش أولى دروسه، في إعادة الاعتبار للسياسة كفعل محبة، مصالحة ومشوار طويل النفس، وربط الحزب بسطر من النص الأصلي للهوية الوطنية، تاركا الجغرافيا الأردنية تروي قصتها، واكتفى هو بدور الترجمان الأمين.