بشير الدعجه

"حين تتحدث الداخلية بلغة الصمت: قراءة أمنية وسياسية في قرار فتح معبر جابر دون المركبات الخاصة"

نبض البلد -
للكاتب والمحلل الأمني د.بشير الدعجه.

جاء بيان وزارة الداخلية الأردنية الأخير كإعلان إداري محض... يسمح للأردنيين بالسفر برًا إلى سوريا عبر مركز حدود جابر دون الحاجة لموافقة مسبقة... ولكن باستخدام وسائط النقل العام فقط... مع استثناء الحالات ذات "الموانع الأمنية"... للوهلة الأولى، يبدو البيان كأنه استجابة روتينية لمطالب اجتماعية أو اقتصادية... أو حتى إجراء تنظيمي لمواءمة مراكز الحدود المختلفة... لكن خلف الكلمات القليلة ... يختبئ مضمون أعمق يحمل إشارات واضحة لمن يقرأ ما بين السطور.

البيان خلا من التفاصيل الجوهرية... وهو ما ليس بغريب على بيانات سيادية في ملفات شديدة الحساسية... فالمعبر الحدودي بين الأردن وسوريا وتحديدًا معبر جابر/نصيب... لا يُدار كمعبر تقليدي بل كصمام أمان وورقة توازن دقيقة بين اعتبارات أمنية، سياسية، ومجتمعية.

لغة البيان: تقنين الوصول دون تفويض الحركة.
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
قرار السماح بالسفر دون موافقة مسبقة يفترض تخفيفًا إداريًا... لكن فرض استخدام النقل العام بدل المركبات الخاصة يعيد فرض مستوى عالٍ من السيطرة... هذا التناقض الظاهري في الشكل يعكس حقيقة بسيطة: الدولة تفتح الباب... لكنها لا تسلّم المفتاح... فمن خلال وسائط النقل العام يمكن ضبط خط السير، وهوية الركاب، وتوقيت الدخول والخروج، وتحديد المسؤولية الأمنية، مما يوفّر آلية مراقبة غير مباشرة دون إرباك المشهد القانوني أو فرض إجراءات استثنائية.

غياب المركبة الخاصة: أداة أمن أم رسالة سياسية؟
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
في السياق الحدودي... المركبة الخاصة ليست مجرد وسيلة تنقل... بل أداة حرية حركة... وعندما تُمنع، فذلك يعني أن الدولة لا تريد مغادرة الأمر لقرارات فردية غير قابلة للرصد أو الضبط... فالأردني الذي يدخل بسيارته الخاصة يمكن أن يبتعد عن المعبر عشرات الكيلومترات... وقد يمر بمناطق نفوذ لمليشيات أو تنظيمات مسلحة، أو يقع ضحية نشاط تهريبي أو جريمة منظمة.

وبالتالي، فإن منع المركبات ليس احترازًا مروريًا... بل إجراء أمني صريح دون أن يُعلن كأمر طارئ... هو قرار يضع المسافر ضمن قيد مرن: أنت حر، لكن ضمن حدود، وتحت عين لا تغفل.

أمن الحدود: التوازن بين الضرورات والتحديات.
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
القرار لا يمكن فصله عن واقع الجنوب السوري... ورغم أن البيان لم يتطرق إلى الوضع الأمني في سوريا... إلا أن المتابع للملف يعلم أن الجنوب لا يزال منطقة رمادية من حيث السيطرة... هناك تقارير تتحدث عن نشاط جماعات مسلحة، ووجود خلايا تهريب نشطة، إلى جانب محاولات مستمرة من أطراف مختلفة لفتح مسارات للتسلل أو تمرير الممنوعات... وفي حالات كثيرة يكون الأردنيون أنفسهم ضحايا أو أطرافًا في تلك الأنشطة دون علم الدولة.

وفي هذا الإطار... فإن نقل الركاب بوسائط عامة... تتبع لجهات رسمية أو مرخصة يشكّل "سياجًا ناعمًا" يحمي المسافر ويحمي الدولة دون أن يفرض منعًا علنيًا.

من السياسة إلى الجغرافيا: من يحكم ماذا؟
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
ثمّة حقيقة معروفة في ملف الحدود السورية الأردنية: ليس كل من يقف على الجانب الآخر (السوري) جهة رسمية... ولذلك، فإن البيان الأردني... الذي لم يشر إلى الجانب السوري مطلقًا... يعكس حذرًا دبلوماسيًا... فالأردن لا يريد أن يظهر بمظهر من يفاوض مجموعات غير رسمية... لكنه يعرف جيدًا أن بعض المسارات داخل سوريا لا تحكمها الدولة المركزية... بل قوى أمر واقع... وهذا يفرض حدودًا على نوع الحركة التي يُسمح بها.

توقيت القرار: لماذا الآن؟
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
هنا تكمن نقطة حساسة... فالقرار يأتي بعد نحو ستة أشهر من إغلاق مؤقت للمعبر في كانون الأول 2024 بسبب "الظروف الأمنية"... ثم إعلان إدامة العمل في آذار 2025 على مدار الساعة... ما بين القرارين... جرت مياه كثيرة في الإقليم... سواء على صعيد التنسيق الأمني بين عمان ودمشق... أو في سياق الضغوط الاقتصادية التي تدفع باتجاه إعادة فتح الشريان التجاري بين البلدين.

وبالتالي... فإن القرار قد لا يكون استجابة لتحسن أمني فعلي... بل تعبير عن مرونة تكتيكية توازن بين حاجة السوق وضرورات الأمن.

الرسائل غير المعلنة: من يقرأ ومن يُفهم؟
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
بيان الداخلية يخاطب المواطن العادي بلغة الإجراءات... لكنه في الوقت ذاته يوجّه رسائل مبطنة إلى أطراف إقليمية ومحلية:

أولًا: الأردن لا يفتح حدوده بالكامل... بل يديرها على أساس أمني استباقي.

ثانيًا: لا عودة كاملة إلى الحالة الطبيعية... بل انفتاح مشروط ومدروس.

ثالثًا: القرار بيد الدولة وحدها... وهي صاحبة التقدير النهائي في ما يُسمح به وما يُمنع.

خلاصة تحليلية.
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
ما لم يُكتب في البيان هو أن الأجهزة المعنية تدرك تمامًا حجم المخاطر في بعض مناطق الجنوب السوري... وتعلم أن بعض الجماعات لا تزال تبحث عن فرص للتهريب... أو لبث الفوضى، أو حتى لاختطاف مواطنين مقابل فدى أو مطالب مشبوهة... وبهذا الشكل من التنظيم تُغلق تلك الأبواب دون أن يُقال صراحة إنها كانت تُطرق.

بيان وزارة الداخلية الأردنية هو نموذج مدروس للاتصال الرسمي في الملفات الحساسة... قليل في كلماته... غني في دلالاته... لا يقول كل شيء... لكنه لا يترك المجال للغموض الكامل... هو إعلان بفتح الباب... مع الإبقاء على اليد على المقبض.... وما لم يُكتب فيه... كان أقوى من كل ما كُتب....وللحديث بقية.

#د. بشير _الدعجه