تحليل المشاعر عبر الذكاء الاصطناعي: من التسويق إلى الرقابة

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في لحظة واحدة، وبتحليل بسيط لتغريدة، أو تعليق، أو حتى نبرة صوتك، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يعرف ما تشعر به: هل أنت سعيد، غاضب، خائف، متوتر، حزين، أم ممتن؟ لم يعد ذلك ضربًا من الخيال العلمي، بل أصبح جزءًا من الواقع اليومي الذي لا يشعر به الكثيرون، لكنه موجود، يتسلل بهدوء إلى تفاصيل حياتنا، يراقب، يحلل، يتعلم، ويقرر. إنها ثورة "تحليل المشاعر"، التي حوّلت المشاعر البشرية من لغزٍ داخلي إلى بيانات قابلة للقراءة، والتفسير، بل والتوظيف.
الذكاء الاصطناعي اليوم لا يكتفي بفهم ما نقوله، بل يحاول فهم ما نشعر به ونحن نقوله. من خلال خوارزميات معقدة، يتم تحليل الكلمات، تعابير الوجه، حركة الجسم، وحتى الإشارات الدقيقة في نبرة الصوت. الهدف؟ الوصول إلى "العاطفة الخفية" خلف الكلمات. إنه ذكاء يحاول أن يرى ما وراء القناع، أن يقرأ بين السطور، أن يفك شيفرة النفس البشرية لحظة بلحظة.
في البداية، وُظّفت هذه التقنيات في عالم التسويق. الشركات أرادت أن تعرف كيف يشعر المستهلك تجاه إعلان، أو منتج، أو علامة تجارية. لم تعد تكفي الإجابات المباشرة في الاستبيانات، فالمستهلك قد يُجامل، أو يُخفي ما يشعر به. أما الذكاء الاصطناعي، فيستطيع أن يرصد مشاعره الحقيقية من طريقة كتابته، من تعليقه على فيديو، من تفاعله في لحظة معينة. هكذا أصبح التسويق أكثر ذكاء، وأدق استهدافًا، وأكثر تأثيرًا. صار بالإمكان تصميم إعلان يُضحكك لأنك تميل إلى الحزن، أو يُشعرك بالطمأنينة لأنك كثير القلق. إنها لعبة نفسية دقيقة، أدواتها لم تعد بيد المختصين النفسيين فقط، بل بيد المهندسين والمبرمجين.
لكن كما في كل تطور تقني، لا تقف القصة عند الجانب الإيجابي. فذات التقنية التي تُستخدم لفهم الزبائن، يمكن استخدامها لمراقبة المواطنين، وتقييد الحريات، وتوجيه الرأي العام. تخيل نظامًا يراقب محتوى شبكات التواصل الاجتماعي ويصنّف المستخدمين حسب مشاعرهم السياسية، أو قدرتهم على التحريض، أو ميولهم العاطفية تجاه قضية معينة. تخيل أن تُقيّمَ بناءً على ما شعرت به، لا ما قلته. أو أن يُتخذ قرار بحقك لأن خوارزمية ما قررت أنك "غاضب جدًا"، أو "مكتئب بشدة"، أو "خطير عاطفيًا".
التحول من التسويق إلى الرقابة ليس مجرد احتمال بعيد، بل حقيقة بدأت تتشكل. هناك دول، بل وشركات خاصة، تستخدم أنظمة تحليل المشاعر في مقابلات التوظيف، وفي مراقبة المكالمات، وفي تحليل خطابات السياسيين، وفي قياس ولاء الموظفين، بل وحتى في التعليم، لمعرفة من من الطلاب يشعر بالملل أو التوتر. وفي كل مرة، يتم تبرير الأمر بـ"تحسين الأداء" أو "ضمان الجودة"، بينما الحقيقة الأعمق تكمن في السيطرة، وفي الرغبة الخفية في اختراق الإنسان من الداخل.
المشاعر، في جوهرها، هي آخر حصون الخصوصية الإنسانية. ما نشعر به هو ما يجعلنا بشرًا. حين تتحول هذه المشاعر إلى بيانات قابلة للتحليل، فإننا نُخاطر بفقدان جزء كبير من إنسانيتنا. صحيح أن تحليل المشاعر قد يساعدنا في فهم أنفسنا بشكل أفضل، أو في تطوير برامج دعم نفسي أكثر دقة، أو في تسويق منتجات تناسبنا، لكن في المقابل، إذا أُسيء استخدام هذه التقنية، فإنها قد تُحوّل المشاعر إلى أداة للابتزاز، والتلاعب، والعقاب.
وهنا تأتي مسؤولية المجتمعات، والحكومات، والمؤسسات الأكاديمية، والأفراد. نحن بحاجة إلى أطر أخلاقية واضحة تحكم استخدام تحليل المشاعر. يجب أن نعرف من يملك بياناتنا العاطفية، وكيف تُستخدم، ولأجل مَن. يجب أن تكون هناك قوانين تحمي خصوصية الشعور كما تحمي خصوصية الرأي. ويجب أن نتعلم نحن، كأفراد، كيف نُميز بين ما نُشاركه بوعي، وما يُستخرج منّا دون إذن.
الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للمشاعر، لكنه ليس صديقًا دائمًا أيضًا. هو مرآة لما نضع فيه. فإذا ملأناه بالرحمة والنية الطيبة، فإنه سيُضيء عوالم جديدة من الفهم والتواصل. وإذا سقيناه بالتحيّز والجشع، فإنه سيُصبح أداة للهيمنة والتزييف. المشاعر ليست ضعفًا بشريًا، بل هي أعظم ما فينا. وحين نحميها، فإننا نحمي جوهر وجودنا.
قد لا نستطيع إيقاف الموجة التقنية، لكن يمكننا أن نُبحر فيها بوعي. أن نُعيد الإنسان إلى مركز القرار. أن نُذكر أنفسنا دائمًا أن خلف كل كلمة، كل تعبير، كل شعور… هناك قلب نابض، يستحق أن يُحترم، لا أن يُحلّل فقط. فالذكاء الحقيقي، ليس في فهم المشاعر… بل في احترامها.