نبض البلد - بقلم: سامر حيدر المجالي
تفتح رواية «لون آخر للغروب» للأردنية هيا صالح؛ وهي الرواية الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية في العام 2018، المجال أمام قارئها للبحث عن تأويلات محتملة تجمع عناصرها بعضًا ببعض أو اكتشاف خيط ناظم لمجمل العمل وعناصره.
يبدو الأمر في البداية هيِّنًا؛ فهناك خطان سرديان تجمع بينهما في الظاهر صلة ما. الخط الأول هو خط وفاء؛ السيدة المتزوجة، وموظفة البنك التي تعيش حياة «مستقرة» مع زوجها عماد وولديها: علياء وعبود.. تقع وفاء فجأة، وتحت تأثير صدفة غير متوقعة، في حبّ شاب عربي اسمه «كريم»، فتنجرف وتخوض الشوط معه حتى آخره، كاشفة عن فلسفة تبرر ما تقدم عليه، وروح متمردة، ورغبة حقيقية في الخروج من واقعها العقيم الذي لم يقدم لها شيئا يرضي الأنثى الكامنة في داخلها.. تخرج إلى واقع تمتلئ به روحها التي عانت مرارة اليتم والحرمان، لتشعر بعد حين من الهشاشة بأنها تعيش حياة تليق بها.
تصف وفاء حالها تلك بقولها: «كان كل شيء مكتملًا من الخارج وناقصًا من داخلي»، وتؤكد ثورتها بنقد مجتمعها وبيان ما يكتنف علاقة الفرد فيه بالمجموع من غبن قائلة: «لماذا علينا أن نكون مستعارين إلى هذا الحد لنرضي خيبات العائلة في مجتمع لا يتصالح مع نفسه أبدا؟!».
تكتمل تلك الدنيا المرغوبة في كريم؛ لقد كان القشة التي أخرجتها إلى الضوء، فهو شاب مبدع، عازف ومسرحي، وذو قدرة على تحقيق ما افتقدته وفاء في زوجها الذي تزوجته زواجًا تقليديًّا شابه العسف والقهر، وحال بينها وبين اكتمالاتها التي كان يمكن لها بلوغها لو أنها سلكت طريقها المرغوب، أو وجدت من يشجعها على تحقيق ذاتها فيه.
يغيّرها الحب، والفضل في ذلك للحرب التي تحظى بكثير من اهتمام الرواية. يجعلها الحب تخوض مجموعة من التحديات؛ تحديًا ضد أبيها الذي تخلى عن مسؤوليته تجاهها فتركها لتعيش في بيت جدها وذهب إلى أمريكا باحثًا عن نفسه هناك، وتحديًا ضد أختها التي حاولت أن تعيدها إلى صوابها وتذكرها بأنها امرأة متزوجة ذات مسؤوليات، وتحديًا ضد القدر الذي يحول بيننا وبين آمالنا، ويحركنا مثل ريشة في مهب ريحه، أو – في لمحة كافكاوية- مثل حشرة تفني عمرها من أجل الآخرين، دون أن تستطيع الخروج على مسارها المحتوم.
تجد وفاء نفسها وسط حربين هما في الحقيقة حرب واحدة ذات تجليات متعددة: حرب تحاصرها في بلاد قُدِّر لها أن تعيش هذه الحال من القسوة وامتهان كرامة الإنسان، وحرب في داخلها تثور على واقعها؛ الواقع الذي لا يمكن فيه فصل الخاص عن العام، فتزداد كلما تورطت في الحرب صلابة، ورغبة في تحقيق ذاتها.
تظهر في الحربين؛ أو الحرب الواحدة ربما، معالم الصراع: حرب ضد القبيلة، وضد قلاع الرمل، وتورط في قتال الأزمنة، يرافق هذه كلها ما تسميه وفاء: فصامًا وسفهًا ووعيًا مثقوبًا.
وبسبب هذا، ولأن حروبها أقوى منها، ولأن نفسها التواقة ما زالت أسيرة قيودها، لا تستطيع وفاء أن تصرح لكريم بأنها تحبه؛ تفعل كل شيء يدل على حبها، وتقدم كل ما يمكن أن تقدمه محبوبة لحبيبها، لكنها تقف بكماء عند لحظة الاعتراف، لتكون -ربما- مثالًا صارخًا، على ازدواجية الإنسان الذي عاش هذا الواقع، وخالف فيه سرُّه علانيته.
تبقى الحشرة على وعيها العالي بواقعها، وتكرر مرة بعد مرة أن ثمة واقعين وحياتين: حياة تُعاش وحياة تستحق أن تعاش، ثم تجد نفسها على تصالح مع الواقع متى استطاع هذا الواقع أن يلوّن نفسه، ويهبها الاهتمام، ويخرج عن قسوته الخانقة، فيذهب كريم، ويحل عماد -الزوج الذي جسَّد القهر- حيث يجب أن يحل كل زوج محب وقادر على العطاء. والسبب دائما تغييرات نجريها على أنفسنا؛ تغيرت وفاء فتغير عماد، واهتمت بنفسها فاقترب منها اقتراب زوج محب.
تعود وفاء إلى رشدها ولا تعود (هنا تبقى الإشكالية قائمة)، لكنها تستحضر الوطن، لتجعل من كل معنى عاشته أو سعت إليه أو تمردت عليه ذا صلة بالوطن. القهر في حالة وفاء ينفي معنى الوطن في حقيقته، والرجل والعائلة والقبيلة والمجتمع والحرب هي جميعًا وطن يمارس على الإنسان إمّا قهره، وإمّا يرتفع به إلى حيث يتحقق معناه.
في الخط الآخر داخل الرواية يأتي نجيب؛ الكاتب الموهوب، الذي يكتب روايات وقصصا لأشخاص آخرين، فيضعون أسماءهم عليها، ويتوارى هو في الظل مكتفيًا بما يناله من أجر مادي يقدمه له الكاتب الوهمي، عبر خلدون صاحب دار النشر التي تتولى إصدار الأعمال تلك.
يبدو عالم نجيب أقل ثراء من عالم وفاء (نتحدث هنا عن عناصر الرواية من شخوص وأحداث)؛ فهو شخص عادي بدأ عالمه يتشكل بطريقة مختلفة منذ أجرى عملية جراحية استبدل فيها بقلبه المعطوب قلبًا جديدًا. يحاول نجيب أن يبحث عن المتبرع لكنه لا يستطيع تحديده بالضبط؛ فهناك احتمالات كثيرة. تحاول الممرضة سلام أن تساعده لكنها لا تستطيع.
خلال ذلك، يشعر نجيب دائما بيد ترعاه وتمتد لحمايته متى احتاج إليها، ثم يتطور الأمر ليرى -عيانًا أو وهمًا، لا ندري!- امرأة تملأ روحه. هذان ملمحان مهمان يكشفان الجوانب الداخلية لنجيب، الباحث عن الحماية، والتواق لحب جميل.
يقع نجيب في مشاكل كثيرة؛ فأولئك الأشخاص الذين كتب لهم كتبًا هم أشخاص مشبوهون وينتمون إلى منظمات إرهابية. يكتشف أنه يكتب لتلك المنظمات، وأنه ينطق باسمها ويعبّر عن برامجها وخططها الواقعية. يشعر أنه ملاحق فيقرر الفرار والبحث عن نفسه كي يكتب روايته الخاصة التي تجسد موهبته الأدبية.
وطوال الرواية، يُحاط نجيب بشخصيات غامضة: الممرضة سلام التي تبدو في أحيان كثيرة مرشدًا روحيًّا له، وخلدون صاحب دار النشر الذي يهمه تحقيق الربح المادي فقط، وسلطان صديقه في الجامعة الذي كان -بمحض الصدفة- المحقق الذي يتولى التحقيق معه بخصوص أعماله التي صارت جزءا من صراعات المجموعات الإرهابية، وهيفاء؛ زوجة سلطان وحبيبة نجيب أيام الجامعة، وفوق ذلك كله روايته المنشودة، التي طلب أحد الأشخاص كتابتها، والتي قد يتوهم القارئ بأنها رواية وفاء (الخط الآخر من السرد)، قبل أن يكتشف أن لا علاقة لهذه بتلك، وأن الأمر غامض، ويحتمل مزيدًا من التأويل.
عند هذه النقطة بالتحديد يشتبك الخطان الروائيان (وفاء ونجيب) في لحظة جدلية يبرز خلالها أمران على أهمية تأويلية كبيرة:
الأول: ما يبدو للوهلة الأولى إيهامًا للقارئ بأن وفاء هي الرواية التي يكتبها نجيب لزبونه الراغب في رواية «ساخنة» تتحدث عن الخيانة الزوجية.
الثاني: شعور نجيب بأنه فاقد لإرادته وأن هناك من يكتبه؛ أي يجعله مادة لرواية هو بطلها والكاتب مجهول، إذ يسأل نجيب في أحد مواضع الرواية: «الرواية أنا أكتبها أم هي تكتبني؟». ويقرر في موضع آخر قائلًا: «لستَ أنتَ من يكتب الرواية بل هي من يكتبك».
بذلك يكون على القارئ أن يخرج باستنتاجه الخاص: هل كان نجيب يختلق شخصيات في ذهنه فيجعل لها دورًا في حياته: سلام؛ التي تشبه الضمير، وسلطان المحقق الذي يستقيل من عمله تاركًا للعدالة مهمة تبدو غير واضحة المآل، وهيفاء الرغبة المنسية، وربما وفاء؛ الفكرة والتحدي الذي يخوضه أمام نفسه بوصفه كاتبًا.
وكذلك تبرز إشكالية مشروعة تتعلق بمجمل الرواية؛ هي: أي الطرفين كان يكتب الآخر؛ وفاء أم نجيب؟ فوفاء موهوبة، وثائرة على محيطها، ولعل نجيب وسيلتها التي تكشف من خلالها سوءات المجتمع. أم أن الأمر لم يخرج عن كون نجيب يُلبّي رغبة زبونه، فيتورط في روايته ويجد نفسه غير قادر على كتابتها كما يريد الزبون، بل يجعلها وسيلته لإثبات وجوده، وتقديم فهم للعالم خاص به؟
مهما يكن من أمر فإن الرواية بمجملها عمل مركب، تميزت الكاتبة فيه ببراعة لافتة في وصف الحركات النفسية وتصوير المشاعر. واستطاعت تقديم شخصيات مركبة ذات ثراء داخلي يجعلها قابلة للمزيد والمزيد من القراءة. وقد نجحت في ضم لَبِنات هذا العالم بعضها إلى بعض، وتقديم صورة كافكاوية ظهرت في غير مكان، مع قدرٍ من التأملات الفلسفية العميقة التي أثرت السرد وشهدت لهيا صالح بتمكنها الروائي.