الأردن في عيد استقلاله: مشروع الكرامة في زمن الانكسارات، مشروع مروءة لا مشروع فتنة

نبض البلد -
حارس السنة الصامت.. ومطرقة في وجه المذهبية المتوحشة..
الأردن في عيد استقلاله: مشروع الكرامة في زمن الانكسارات، مشروع مروءة لا مشروع فتنة
خليل النظامي 

لا يحتفل الأردن في الخامس والعشرين من أيار بـ مجرد عيد وطني كـ غيره من الأعياد العابرة، بل يعيد اكتشاف نفسه من بين الركام، كما يعيد العازف الوحيد لحنا نقيا وسط جوقة صاخبة عزفت كثيرا على أوتار الدم والمصالح.

فهذ اليوم ليس يوما يقاس بـ الأرقام والخطابات الرسمية المنمقة، بل لحظة كونية خاصة، تتجلى فيه هوية دولة اختارت منذ ولادتها أن تكون الحارس الصامت لوصايا الكرامة والمروءة في زمن العري الأخلاقي والتوحش الإنساني. 

نعم أحبتي إنه الأردن الذي لم يكن يوما لاعبا في حلبة المذهبية والطائفية، ولم يرفع راية سوى راية الوطن الجامع، فـ منذ أن تفجرت المنطقة بحمم الفتنة في 2003، وبدأت رايات الطوائف ترتفع على أنقاض المدن، ظل الأردن واقفا كـ سنديانة تعتلي جبال سوف الشاهقة، وكـ صخرة في نهر مجنون، لا تنكسر، ولا تسمح لـ الماء أن يجرها نحو المجهول، ففي الوقت الذي كانت فيه بغداد الحضارة تحترق، والموصل تنهار، وحلب الجمال تختنق، وتعز الصمود تنزف، صمدت عمان كـ مئذنة شامخة في ليل معتم، تنادي باسم الإنسان لا باسم الطائفة. 

فلم يحمل الأردن لافتات الصراخ، ولم يؤسس الميليشيات الحدودية، ولم يكن له منابر إعلامية خائنة تحرض على الفتنة والخراب بعباءة رديئة، وتصنف القلوب حسب مذاهبها ومصالحها، ولم يستخدم اللاجئين كـ ورقة تفاوض، أو مصدرا لـ الدخل، بل كان ملاذا لا خندقا، وكان حضنا لا منصة، فـ من العراق إلى سوريا، من اليمن إلى لبنان، كان أبناء السنة لاجئين ومنكوبين وخائفين يأتون إلى الأردن لا كـ غرباء، بل كـ أبناء ضلوا الطريق، فوجدوا الباب مفتوحا، واليد ممدودة، والرحم حيا. 

ولم تكن الحماية الأردنية لأهل السنة حدثا طارئا أو تحركا مصلحيا، بل امتدادا طبيعيا لهوية الدولة التي نشأت على قاعدة "لا دم يستثمر ولا هوية تباع ولا مظلومية تستغل لتأجيج الكراهية. 

ففي ضجيج وصمت المستشفيات الأردنية الخاصة والحكومية، كانت العدالة تمارس بلا غرابة، وفي المدارس جلس ابن اللاجئ إلى جانب ابن الدولة، لا فرق إلا في لون الحقيبة أو نوع الحذاء، وفي طوابير المخابز لم يسأل أحد عن مذهبه. 

نعم أيها السادة،،، 
هذا هو الأردن، الدولة التي اختارت أن تكون ضميرا يمشي على قدمين، لا طرفا في صراع ولا تابعا في محور، دولة لم تهرول خلف العواصم الكبرى بحثا عن دور، ولم تضع روحها على موائد الغزاة، بل حفرت لنفسها مكانا في خارطة الاحترام والكرامة والمروءة، لا النفوذ والتملق بـ المال والنفط. 

وفي عيد استقلاله، لا يحتفل الأردن فقط بخروجه من الاستعمار البريطاني، بل بخروجه من هوة التشظي العربي، ومن فخاخ الاستقطاب الإقليمي، ومن عبثية الشعارات التي أغرقت غيره، يحتفل أن يظل دولة لا تدار من الخارج، ولا تؤجر سيادتها في مزادات النفوذ، يحتفل بأنه لم يتورط في جراح الجوار، ولم يرفع لواء الحروب بـ الوكالة. 

وخذوها عني،، 
الأردن مشروع لم يكتب في ورقة سياسة، بل نقش في وجدان الأردنيين، مشروع دولة لا تملك المال والطائرات الضخمة لتشتري الولاءات، لكنها تملك ما هو أثمن ؛ تمتلك الهيبة المستمدة من التاريخ، والاحترام المستمد من الأخلاق، والثقة المزروعة في القلوب، والمروءة والنخوة المستمدة من العرب الأقحاح. 

وها هو الان، وبعد تسعة وسبعين عاما من الاستقلال، لا يقف على تلة يلوح براية الانتصار، بل ينظر حوله بتمعن ويراجع خسائره ومكاسبه، ويواصل بناء صورته المتمثلة بـ دولة لا تغريها الأبراج الشاهقة، بل تفتخر بمؤسساتها التي تصمد رغم الشح، ودولة لا تطارد الظهور الإعلامي، بل تتقن فن الفعل الصامت، ودولة لا تستعرض قوتها، لكنها لا تنحني، ودولة تمارس الاعتدال لا كـ تكتيك بل كـ عقيدة، ودولة تحمي الإنسان لا لأنه من طائفة معينة، بل لأنه إنسان. 

نعم إنه الأردن،، الأردن الذي لا يمكن اختزاله في خريطة جغرافية، الأردن الذي لا يقاس بميزانية مالية، ولا يفهم فقط عبر المؤشرات الاقتصادية، بل أردن الفكرة،، فكرة أن تكون دولة صغيرة، لكنك لا تنكسر، وفكرة أن تكون محدودة الموارد، لكنك تفيض بالعطاء والخير، وفكرة أن تكون بلا جيش إعلامي، لكن صوتك مدوي، وفكرة أن تحمي بلا استعراض وتملق، وفكرة أن تبقي بابك مفتوحا بلا ثمن. 

في عيد استقلاله، لا يحتفل الأردن بنفسه فقط، بل يذكرنا جميعا أن هناك ما يستحق أن نصونه، الضمير، والكرامة، والاعتدال، والمروءة والشرف، هذه المعاني التي لا تدخل في بيانات الموازنات العامة، لكنها هي التي تصنع الأوطان، ووطني معقلها....