حاتم النعيمات
نظّمت بعض القوى "اليسارية" تظاهرة في منطقة وسط البلد رفضًا لمعاهدة السلام التي وقعت في 1994 واحتجاجًا على اتفاقية الغاز التي وقعت بين شركة الكهرباء الوطنية وتحالف شركات تقوده "نوبل إينريجي" الأمريكية عام 2016.
الجديد أن هذه الفعالية نُظمت دون وجود للاخوان المسلمين -كالعادة- وكأن هذه القوى ترغب في اختبار قدراتها الذاتية.
كتمهيد، أعتقد أن اليسار الوطني المحلي جزء أساسي من أي خارطة سياسية صحية، لأن اليسار "الحقيقي" بطبيعته يقدّم الحلول والتصورات العلمية والتحليلات الضرورية للحالة الإقتصادية والإدارية التي تعيشها أي دولة، فهذا اليسار يتحول إلى أداة فرملة إذا ما انزلق النظام الاقتصادي إلى الرأسمالية الحادة بسيطرة القلة على معظم مصادر الإنتاج. لكن هل نملك هذا النوع من اليسار في الأردن؟
سأنطلق من تحليل التظاهرة المتواضعة عدديًا والتي تمحورت شعاراتها حول إلغاء معاهدتي السلام والغاز، والمستغرب أن هذه العناوين والشعارات ليست ساخنة أو نشطة حاليًا ولا تتناسب مع حجم الكارثة والخطر الوجودي اللذان تواجههما فلسطين اليوم خصوصًا بعد إعلان الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية ضخمة سميت "عربات جدعون" لإعادة احتلال القطاع بالكامل، ورغم التسريبات القوية عن نية أمريكية لتهجير مليون غزّي إلى ليبيا وغيرها من الإجراءات التي تهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني في أرضه المحتلة. بالتالي فإن ما يفعله هذا اليسار هو تقليل حقيقي لما هو خطير ومُلِح لأجل ما هو ثانوي؛ فما قيمة اتفاقية الغاز أمام خطر تهجير مليون مواطن فلسطيني؟
إذا كان هذا اليسار يهتم فعلًا بالقضية الفلسطينية فلماذا لا يرد على مشاريع التهجير والتوطين برفع شعار حق العودة مثلا؟ وهذا شعار -بالمناسبة- أهم وأخطر من الشعارات التي تخص اتفاقية غاز مؤقتة واتفاقية سلام شبه مجمّدة اليوم، ألا يعتبر شعار حق العودة مضادًا مباشرًا لشعارات التهجير التي تطلقها إسرائيل؟ وفي نفس السياق، لماذا لم يرفع هذا اليسار شعارًا داعمًا واحدًا لموقف الأردن ضد التهجير؟
على الهامش، فإن اتفاقية الغاز جاءت بعد تعثر التزويد المصري وأُقرّت بسعر مربوط بأسعار خام برينت العالمية وهذا يوفر للأردن تخفيضات مقارنة بالأسعار العالمية للغاز الطبيعي المسال، خاصة في ظل ارتفاع أسعار النفط المرتبط بالاضطرابات المستمرة. أما اتفاقية السلام فهي اتفاقية جاءت بعد حروب وتضحيات وبعد أن وقّع أصحاب القضية ذاتهم معاهدة مع الاحتلال.
بصراحة، النزعة الفصائلية الكلاسيكية أصبحت واضحة على هذا اليسار للأسف، ولهذه النزعة عدة مظاهر: الأول، ويتمثل في اسقاط شعار حق العودة من العمل السياسي (العلني على الأقل) رغم أن هذا الشعار يجب أن يكون مركزيًا جدًا، ولهذا أساس موجود في أدبيات بعض هذه الفصائل التي تعتمد تعريف "فلسطين الانتدابية" كجغرافيا يستهدفها التحرير ومن يقرأ في التاريخ يعرف ما هي فلسطين الانتدابية. أما الثاني، فيتمثل في المحاولات المستمرة لضرب الاتزان والاستقرار الأردني عبر تصوير الدولة وكأنها داعم لإسرائيل وذلك ضمن خرافة الدولة الوظيفية المصطنعة التي يتبناها العديد من أقطاب هذا اليسار.
الغريب أيضًا أن هذا اليسار يختلف مع الإخوان المسلمين أيدولوجيًا وإجرائيًا في جميع دول الإقليم، ولكنه في الأردن يمارس العكس بالتحالف معهم، وظهر ذلك في الكثير من الائتلافات والملتقيات والتظاهرات منذ 2011. وما يفعله اليوم برفع شعارات ثانوية نابع من اعتقاده أن بإمكانه سد الفراغ الذي تركه الإخوان المسلمين بعد حظرهم من قبل الحكومة الأردنية، وهذا وهم إضافي يضاف إلى مجموعة الأوهام التي يؤمن بها هذا التيار.
الإصلاح السياسي في الأردن مسار حتمي، لذلك يجب أن يتم على مبادئ وطنية بحتة، وعليه فإن تنقيح الخارطة السياسية من أي فصيل سياسي يرتبط بالخارج لا يعتبر إقصاءً، بل تطبيع لهذه الخارطة تمامًا كما في بقية دول العالم؛ فمن حق الأجيال القادمة أن تشارك في العمل السياسي وصناعة القرار دون تشويش على أهدافها الوطنية من قبل قوى تشكك في وجودها وتاريخها وهويتها.