نبض البلد - حسام الحوراني
في سباق الزمن بين المرض والعلاج، لطالما كان الإنسان يسعى لاكتشاف دواء يسبق الألم، ويعالج دون تأخير. لكن الأبحاث الدوائية – رغم كل تطورها – ما زالت تواجه تحديًا هائلًا: التعقيد الخارق للتفاعلات الكيميائية داخل الجسم البشري. عشرات السنوات ومليارات الدولارات تُنفق لاكتشاف عقار جديد، ومع ذلك قد ينتهي المطاف به في رفوف المختبرات دون فاعلية كافية.
لكن اليوم، تقف البشرية على أعتاب ثورة علمية قد تُعيد صياغة قواعد اللعبة بالكامل. هذه الثورة اسمها: الحوسبة الكمومية (Quantum Computing)، وهي تكنولوجيا لا تَعِد فقط بتسريع الحسابات، بل بتغيير جوهري في فهمنا للتركيب الجزيئي والتفاعلات الكيميائية – الأمر الذي سيجعل اكتشاف الأدوية أسرع، أدق، وأرخص.
فما الذي يجعل الحوسبة الكمومية مختلفة إلى هذا الحد؟ ولماذا يتوقع العلماء أن تُحدث انقلابًا في عالم الطب كما فعلت الكهرباء في القرن الماضي؟
لفهم ذلك، علينا أن نعرف أن الذرات والجزيئات لا تتبع قواعد الفيزياء الكلاسيكية، بل قوانين ميكانيكا الكم، حيث يمكن لجسيم واحد أن يوجد في أكثر من حالة في آن واحد، وأن يكون "متشابكًا" مع جسيم آخر على مسافة آلاف او ملايين الكيلومترات. تقليديًا، تحتاج محاكاة الجزيئات الدوائية وتحليل تفاعلاتها في الجسم إلى حسابات معقدة لا يمكن حتى لأقوى الحواسيب الفائقة إنجازها في وقت مقبول. وهنا بالضبط تأتي قوة الحوسبة الكمومية.
فبدلاً من تمثيل البيانات باستخدام "بتات" ثنائية (0 و1) كما في الحوسبة التقليدية، تستخدم الحوسبة الكمومية "كيوبتات" (Qubits) قادرة على تمثيل حالات متعددة في نفس اللحظة. هذا يعني أن حاسوبًا كموميًا يمكنه فحص مليارات التركيبات الكيميائية المحتملة في وقت متزامن، بدلاً من إجراء محاكاة واحدة تلو الأخرى.
وقد بدأت شركات رائدة كبرى في العالم في استثمار مليارات الدولارات لتطوير خوارزميات كمومية مخصصة لمحاكاة الجزيئات الحيوية، والتنبؤ بتفاعلها مع بروتينات الجسم. شركة Qubit Pharmaceuticals الفرنسية أعلنت مؤخرًا عن اختراق في محاكاة دواء مضاد للسرطان باستخدام 200 كيوبت فقط، بينما تشير التوقعات إلى أنه مع الوصول إلى 1000 كيوبت موثوق، سيكون بالإمكان اكتشاف أدوية لأمراض مثل الزهايمر والتصلب المتعدد خلال أسابيع بدلاً من سنوات.
وهنا يتجاوز التأثير حدود السرعة، ليشمل الدقة وتقليل الأخطاء. فالحوسبة الكمومية قادرة على الكشف عن التفاعلات الجانبية المحتملة في مرحلة المحاكاة، مما يُقلل من حالات فشل الأدوية في المراحل الإكلينيكية، ويوفر مليارات الدولارات التي تُهدر سنويًا في التجارب البشرية غير المجدية.
ولأن الدواء ليس فقط علمًا بل تجارة، فإن الحوسبة الكمومية تُتيح لشركات الأدوية تصميم علاجات مخصصة للفرد (Personalized Medicine)، بناءً على الجينات والبنية البيولوجية لكل مريض. تخيل أن حاسوبًا كموميًا يُحلل حمضك النووي، ويُحدد أي دواء سيكون أكثر فعالية لجسمك، بل ويُقترح تركيبة فريدة مخصصة لك وحدك. هذه ليست خيالًا علميًا، بل أبحاث نشطة في مختبرات عالمية، تقترب يومًا بعد يوم من التطبيق السريري.
وتكمن المفارقة أن أكثر من سيستفيد من هذه الثورة هي الدول النامية التي تعاني من نقص في الموارد الطبية. فمع تسريع عملية اكتشاف الأدوية، وتخفيض تكلفتها، يمكن توفير علاجات فعّالة بأسعار معقولة للشرائح الأوسع من السكان، بما في ذلك أمراض نادرة أو مهملة لا تُخصص لها ميزانيات أبحاث كافية اليوم.
ومع ذلك، لا يخلو الطريق من تحديات. فالحواسيب الكمومية لا تزال في مراحلها الأولى، وتواجه تحديات تتعلق بالاستقرار، وتصحيح الأخطاء، وتوسيع البنية التحتية. لكن التسارع الهائل في هذا المجال يوحي أن هذه العقبات مؤقتة، وأننا في غضون اشهر او ربما سنوات قليلة سنرى تطبيقات حقيقية للحوسبة الكمومية في المستشفيات، وشركات الأدوية، ومراكز البحث.
في الوطن العربي، يُمثل هذا التوجه فرصة استراتيجية لا يجب تجاهلها. فبناء شراكات مع مؤسسات بحثية عالمية، والاستثمار في تعليم الكفاءات المحلية، يمكن أن يضع دولًا عربية في موقع ريادي في مجال الحوسبة الحيوية والطب الكمومي. تخيّل أن تكون أول دولة عربية تطور دواءً كموميًا مضادًا للسرطان أو السكري، وتصدره للعالم!
اخيرا، الحوسبة الكمومية لا تَعِد فقط بتسريع اكتشاف الأدوية، بل بتغيير فلسفة العلاج من "تجربة وخطأ" إلى "علم وتحديد". نحن ندخل عصرًا يُصبح فيه الزمن هو العامل الحاسم، والكمّ هو السلاح الجديد. فهل سنكون من صُنّاع هذا المستقبل، أم من مستخدميه فقط؟