نحو نقل عام شامل في عمّان: أولوية اقتصادية قبل أن تكون خدمية

نبض البلد -

الدكتور هيثم الحسنات

أهمية النقل العام في المدن الحديثة

تشكل منظومة النقل العام شريانًا حيويًا في المدن المعاصرة، لما توفره من فوائد اقتصادية واجتماعية. فقد أثبتت الدراسات أن الانتقال بواسطة حافلات وقطارات عامّة يستهلك طاقة أقل وينتج ملوثات أقل بكثير من الاعتماد الكلّي على السيارات الخاصة. كما يساعد النقل العام في تخفيف الضغط على البنية التحتية الحكومية، مما يحد من الإنفاق الضخم على توسيع الطرق والجسور. وفي كثير من الدول، تؤدي زيادة استخدام النقل العام إلى تقليص فاتورة استيراد الوقود؛ فخفض عدد السيارات الخاصة على الطرق ينعكس إيجابًا على حسابات الطاقة الوطنية. بالإضافة لذلك، يُحسِّن النقل العام من كفاءة الاقتصاد ويعزّز الإنتاجية؛ إذ توفر مواصلات عالية السعة أوقات سفر أقل للموظفين والعمال، ما يزيد من فرص الوصول إلى أماكن العمل بكفاءة. كذلك تساهم وسائل النقل الجماعي في خفض الازدحام المروري؛ فعندما يلجأ الكثير من الناس إلى الحافلات والقطارات بدلًا من سياراتهم، تنخفض حدة الزحام على الشوارع، وتتحسّن سرعة وسلاسة حركة المرور.

  • خفض الإنفاق الحكومي: تقلل الحافلات والقطارات من الحاجة المستمرة لتوسيع الطرق والجسور، مما يخفض الميزانيات المرصودة للصيانة والبنية التحتية.
  • توفير الطاقة وتقليل الواردات النفطية: اعتماد النقل العام يقلل من استهلاك الوقود لكل مسافر، مما يساهم في خفض فاتورة استيراد الوقود الوطنية.
  • رفع الإنتاجية الاقتصادية: تنظيم النقل الجماعي يوفر أوقات نقل أقصر للعمال والمواطنين، فيزيد من ساعات العمل الفعالة ويقلص الخسائر بسبب التأخير. مثلاً، دراسة للبنك الدولي أوضحت أن تطوير أنظمة نقل متكاملة (مثل الباص سريع) قد يرفع من إنتاجية المدينة بنسبة تصل إلى 7٪.
  • تخفيف الازدحام المروري: بإخراج عدد أكبر من الركاب من سياراتهم إلى وسائل عامة، تنخفض كثافة السيارات على الطرق. وهذا ينعكس بتحسّن في كفاءة حركة المرور وتوفير الوقود، لأن السيارات المتبقية تحقق استهلاكًا أفضل نتيجة انسيابية السير.

واقع النقل العام في عمّان

تعاني عمّان من اعتماد كبير على المركبات الخاصة، حيث تشير بيانات البنك الدولي إلى أن حوالي 33% من السكان يستخدمون سياراتهم الخاصة للتنقل اليومي مقابل 14% فقط يستخدمون وسائل النقل العام. ويزداد الوضع تعقيدًا بزيادة أعداد المركبات المسجلة وزحف العمران دون تخطيط متكامل. ونتيجة لذلك، تشهد شوارع العاصمة ازدحامًا خانقًا يعد من الأعلى في المنطقة، مسبّبًا خسائر اقتصادية جسيمة. فقد كشف تقرير للبنك الدولي أن خسائر التأخير وهدر الوقود الناتجة عن الازدحام في عمان تصل إلى 1.5 مليار دينار سنويًا، أي نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي للمدينة.

  • اعتماد على السيارات الخاصة: نسبة مرتفعة من سكان عمّان تفضِّل السيارة الخاصة، ما يتسبب بزيادة معدل الازدحام وتدهور جودة الهواء. تركّز النقل العام في المدينة لا يتجاوز 14%.
  • أزمة الازدحام والتلوث: الازدحام المروري الطويل يزيد من استهلاك الوقود اليومي وارتفاع الانبعاثات الملوثة، ويكلف الاقتصاد الوطني مبالغ ضخمة في فقدان الوقت وإهدار الطاقة.
  • ربط هش بين الأحياء: تنتشر أحياء عمّان دون تخطيط حضري منسق، مما أدى إلى ضعف الربط بين المناطق. وفق تقرير البنك الدولي، لا يمكن لسكان العاصمة الوصول إلا إلى 18% فقط من فرص العمل في المنطقة الحضرية الكبرى خلال ساعة واحدة باستخدام المواصلات العامة والمشي. هذا التباين في فرص التنقل يعكس فجوة اجتماعية؛ فغالبًا ما تضطر الفئات الأضعف الموجودة في شرق عمان للسفر لمسافات مضاعفة مقارنة بالأحياء الثرية للوصول إلى وظائفها وخدماتها.

الفوائد الاجتماعية والبيئية للنقل العام الفعال

تحمل منظومة نقل عام متكاملة فوائد اجتماعية وبيئية كبيرة. فعلى الصعيد البيئي، يقلل الانتقال الجماعي من إجمالي الكربون المنبعث يوميًا، إذ يستبدل العدد الكبير من السيارات على الطرق بحافلات تقلّ عددها من السفرات وتستهلك الوقود بشكل أكثر كفاءة. ووفق تقديرات، فإن السفر بالحافلات أو القطارات العامة ينتج نحو ثُلثي انبعاثات الطاقة مقارنة بالسيارات لنفس المسافة. وقد بينت تجربة إسطنبول على سبيل المثال أن حافلات المتروبوس السريعة نجحت في إزالة ما يقرب من 80 ألف سيارة من الشوارع يوميًا، مما حقق خفضًا فوريًا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار نحو 623 طن يوميًا. وبذلك تسهم هذه الأنظمة في تحسين جودة الهواء والحفاظ على البيئة.

  • تحسين جودة الحياة: تقليل أوقات التنقل اليومية يوفر فرصًا أكبر للأفراد لقضاء وقتهم في العمل والعائلة والأنشطة الإنتاجية. فعلى سبيل المثال، خفض مشروع المتروبوس في إسطنبول زمن التنقل اليومي إلى نحو 40 دقيقة مقابل 90 دقيقة سابقًا، أي بتخفيض يصل إلى 50% مما انعكس إيجابيًا على رضا المواطنين وجودة حياتهم.
  • التقليل من الفجوات الاجتماعية: عندما يتوفر نظام نقل عام فعال يغطي شوارع العاصمة بكفاءة، يتمكن سكان الأحياء البعيدة أو الأضعف اقتصاديًا من الوصول السريع إلى المؤسسات والخدمات. وبذلك تتحسن تكافؤ الفرص بين مختلف طبقات المجتمع والضواحي، بما يحد من الفجوة التنموية.
  • خفض الانبعاثات والتلوث: يشجع النقل العام على استخدام وسائل أقل استهلاكًا للطاقة ونظيفة نسبيًا. ووفقا للخبراء، فإن نقل شخص واحد بالباص السريع بدلاً من سيارته الخاصة يمكن أن يقلل من بصمته الكربونية تصل إلى 30%. إضافة إلى ذلك، تربط شبكات النقل العام بفعالية التنمية الحضرية بخطط الاستدامة من خلال الحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري.

أمثلة عالمية ناجحة

تقدم مدن عديدة حول العالم دروسًا ملهمة في بناء أنظمة نقل عام متطورة. ففي إسطنبولعلى سبيل المثال، افتتحت السلطات خط المتروبوس السريع بطول 50 كلم عبر مضيق البوسفور، فخففت بذلك الضغط على الجسور الرئيسية. وقد صمم النظام لتقديم خدمة عالية الجودة تقلص زمن الرحلات وتتيح نقل كبير للركاب. ونتيجة لذلك، استعادت المركبات الخاصة سلاسة قيادة أعلى في شوارع المدينة بعد أن خُفّضت أوقات العبور بين جانبي المدينة من ثلاث ساعات بالسيارة إلى نصف ساعة بالحافلة، مع انخفاض كبير في الانبعاثات.

  • إسطنبول (تركيا): أثبت نظام متروبوس فعاليته في تقليص زمن السفر إلى النصف تقريبًا وتحسين تردد الحافلات بحيث لا ينتظر الركاب أكثر من 30 ثانية تقريبًا للانتقال، مما رفع رضا المستخدمين إلى 90% تقريبًا. وقد أدّى ذلك إلى تخفيف الازدحام المروري بشوارع إسطنبول بصورة ملموسة.
  • بوغوتا (كولومبيا): اعتمدت بوغوتا نظام TransMilenio للحافلات السريعة والذي يرمي إلى تحسين جودة النقل وفرض قيود على استخدام السيارات الخاصة. تم تصميم النظام خصيصًا لزيادة التغطية والتردد، وتقليل التلوث من خلال تشجيع التحول من السيارات إلى الحافلات عالية السعة.
  • كوالالمبور (ماليزيا): استثمرت في شبكة مترو أحادي وخطوط قطارات خفيفة متكاملة مع نظام الحافلات، لتغطية واسعة تربط ضواحي المدينة بالمراكز الحضرية. هذه التوسعات أدت إلى تقليل الاعتماد على السيارات الخاصة وتحسين تدفق الركاب في شوارع العاصمة الماليزية.

توصيات وأفكار مستقبلية

لحل أزمة النقل في عمّان يجب تبني حزمة من الإجراءات التنموية العملية. أولاً، توسيع شبكة الحافلات السريعة (BRT)بشكل ملحوظ ليشمل أغلب أحياء العاصمة، مع تخصيص مسارات حصرية لهذه الحافلات لضمان سرعة انسيابها. ثانياً، تكامل ذكي للنقل عبر استخدام تكنولوجيا المعلومات: يشمل ذلك تطبيقات حجز الركوب الذاتي(on-demand)، ونظام دفع موحد ذكي (بطاقة نقل موحدة) لتسهيل الانتقال بين وسائل مختلفة وزيادة اعتمادية الخدمة. ثالثاً، التخطيط العمراني يجب أن يصمم وفق نماذج التنمية المرتكزة على النقل(Transit-Oriented Development) بحيث تكون الأحياء والمجمعات السكنية والتجارية محورية حول محطات النقل العام، مما يعزز استخدامه ويخفض الحاجة للتنقل طويل المسافة. رابعاً، دراسة إقامة شبكة مترو مستقبلية قد تكون ضرورية على المدى البعيد، لربط المناطق ذات الكثافة السكانية العالية باتساع أكبر. وقد أوصى البنك الدولي بضخ استثمارات كافية في البنى التحتية للنقل المتكامل وتحديد أولوياتها ضمن الموارد المتاحة.

  • توسيع خط الباص السريع: زيادة أطوال مسارات الـBRT إضافة إلى زيادة عدد الحافلات في ساعات الذروة، لاستيعاب الأعداد المتنامية من الركاب.
  • التكامل الذكي والتذاكر الإلكترونية: اعتماد نظام دفع واحد وبطاقات نقل ذكية تشمل الحافلات والتاكسي والمترو المستقبلي، مع نشر تطبيقات تخطيط الرحلات الذكية (مثل تطبيق سمارت باص) لتمكين الركاب من تخطيط مسارهم بفعالية.
  • التخطيط الحضري المرتبط بالنقل (TOD): توجيه البناء والتوسع السكاني حول خطوط النقل العام، مع تطوير مراكز تجارية وخدمية بالقرب من محطات النقل لتقليل المسافات الواجب قطعها.
  • دعم حكومي وتخطيط مستدام: ينبغي أن يعتبر وضع النقل العام ضمن أولويات التطوير الحضري وليس خيارًا ثانويًا. ويُستحسن أن تتعاون مختلف الجهات (أمانة عمان، وزارة النقل، القطاع الخاص) في استراتيجية موحدة، تضخ استثمارات مستهدفة في البنى التحتية للنقل وتشجع الاستخدام عبر حوافز مالية وتنظيمية.

الخاتمة

في ظل النمو السكاني والتوسع العمراني المتواصل، لا يمكن لعمان أن تبقى أسيرة «ثقافة السيارة» وحدها. فالمدن الحديثة أثبتت أن خيارات النقل الذكية والمستدامة هي التي تصنع مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي. لذا يجب أن تكون تطوير منظومة النقل العام في عمّان أولوية تنموية حقيقية وليست رفاهية؛ فالتحوّل نحو حافلات سريعة متكاملة، وتخطيط حضري معقلن، وربط ذكي بين مختلف وسائل النقل، سيجعل العاصمة أكثر ارتياحًا وسيرًا، ويُنقذ ميزانيتها الوطنية من بذر الوقود والزمن الضائع. باختصار، مستقبل عمّان يعتمد على خيارات تنقل ذكية ومستدامة تضمن النمو الاقتصادي وحماية البيئة ورفاهية المواطنين.