الرسول... من الغار إلى القمة

نبض البلد - إبراهيم أبو حويله...


هل اتضحت الرؤية للرسول صلوات ربي عليه من أول يومٍ شاهد فيه جبريل عليه السلام على حقيقته، وجاءه الأمر الإلهي الصادم: اقرأ، وهو يرتجف خوفًا من هول ما رأى؟! في تلك اللحظة، كان الموقف كلّه لخديجة رضي الله عنها، حين قالت: "والله ما يُخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق".

فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، فقال له: "هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَ مخرجيَّ هم؟!" قال: "نعم، لم يأتِ رجلٌ بمثل ما جئتَ به إلا عُودي، وإن يُدركني يومُك أنصرك نصرًا مؤزرًا". (رواه الشيخان)

كل هذه الأحداث ألقت بظلالها فجأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في لحظة كان فيها ذلك الرجل الحليم الحكيم الكريم القوي، يعتزل الناس أيّامًا لحكمةٍ يبحث عنها، أو خلوةٍ تُريح النفس، أو نُسكٍ يتقرّب به إلى خالقه، أو لهدوءٍ نفسيّ يسعى إليه. فهو لم يكن يُشارك قومه شركهم ولا فُحشهم ولا سوء فعالهم، لكنه شاركهم في اللحظات العظيمة التي تُصنع فيها الأمم، كبناء الكعبة، وحلف الفضول، وتجارة القوافل. ومن هنا عرفته خديجة رضي الله عنها، فكان الأمين الصادق العفيف الطاهر.

هل كان يتفكّر، وهو قد بلغ الأربعين، ويُهيّئ نفسه لأحداثٍ جسام؟! فهو لم يكن يدري ما أعدّه له خالقه عزّ وجل.

من الغار إلى مكة يبدأ الحمل الثقيل، والانتقال من الحالة الفردية، ومن الصورة الأخلاقية الفردية شبه الكاملة، إلى بناء الأفراد شبه الكاملين، في سبيل بناء الأمّة. فمكة كانت لصناعة الفرد المؤمن، والمدينة كانت لصناعة الدولة المؤمنة، وتحقيق التحالفات، والعهود، والمواثيق، والصلح، والعفو، والحرب، والشدّة، والبذل، وتأليف القلوب، ومخاطبة العقول، وصناعة الصداقات أو تحييد الأعداء.

وكان يسعى لنقل الإيلاف من مكة إلى المدينة، والإيلاف، كما يشير الباحث وضاح خنفر، هو بناء طرق التجارة بما يلزم ذلك من بذل مال، وصناعة صداقات، ومنح الهدايا، والمشاركة في المغانم والمغارم. ونُلاحظ هنا أن الرسول صلوات ربي عليه كان يسير وفق خطةٍ أعدّها بناءً على كل تلك المعطيات، مع وحيٍ مستمر، ورعاية إلهية دائمة، حتى بلغ القمّة في مشهدٍ مهيب في حجّة الوداع: "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينًا."

وهكذا، كانت خطواته مدروسة، موضوعة بعناية، تسير لأهدافٍ مرحلية، تُقاس بما يُشبه "حجر الميل" كما يسميه الغرب، أو "الإنجاز" وفق معايير الأداء المرتبط بالزمن. كانت خطته استراتيجية واضحة المعالم، ومرحلته في مكة هي مرحلة صناعة الفرد، لا مرحلة مواجهة، بينما مرحلة المدينة هي مرحلة بناء الدولة.

في المدينة نجد: وثيقة المدينة، والقبائل العربية، وطرق التجارة، والاقتصاد والعمل، والبعثات والسرايا، والعيون، ومعرفة الصديق من العدو. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا يصنع دولة.

لقد أجبر خصومه على البقاء في دائرة ردّ الفعل؛ لأنه كان دائمًا صاحب المبادرة، وكان يُفاجئ الصديق والعدو على حدّ سواء، حتى أقرب صحابته لم يكونوا يتوقّعون أفعاله، وقد فاجأهم كثيرًا بما كان يُقدِم عليه. كان قارئًا جيدًا للخريطة السياسية والتاريخية والجغرافية المحيطة به.

في المقابل، لم يستطع الأعداء أن يقابلوه بخطةٍ بديلة، رغم كثرتهم، وقوة عتادهم، وغنى أموالهم. فقريش كانت تملك ثروة ضخمة، وسادتها يعيشون في ترفٍ بين مكة والطائف، ويتنعمون بنِعَم الله بسبب البيت والإيلاف، وبسبب الحروب بين الفرس والروم التي فُتحت بها أبواب التجارة لهم، وأُغلقت على غيرهم.

وأما اليهود، فحسبك أن تعلم أن المدينة لم تعرف الوفرة إلا بعد فتح خيبر، والتي قُدّر نصف غلالها من التمور والحبوب بخمسة آلاف طن، كما يشير خنفر. وقد اتفق معهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد هزيمتهم على أن يبقوا في ديارهم، مؤمَّنين، شرط أن يُؤدّوا نصف الثمار للمدينة. فلا هو استعمار إحلالي، ولا قتل للشجر أو البشر، وإنما كان فتحًا بأخلاق النبوة.

ولم يستعمل الشدّة إلا مع بني قريظة، لأنهم خانوا العهد في غزوة الأحزاب، وهي خيانة كادت تُضيع الدولة الإسلامية وتُنهي أمرها، فوافق حكم سعد، الذي قضى بقتل محاربيهم وسَبي نسائهم وأطفالهم، فكان حكمًا وافق حكم الله ورسوله.

ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخدم الشدّة مع غير اليهود، لا مع المنافقين، ولا حتى مع قريش في فتح مكة، حين أظهر قمة التسامح والتواضع، فأنزل راحلته حتى كادت تلامس الأرض تواضعًا لله، الذي صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ الإسلام وحده.

وفي لحظة النصر، أرجع الفضل لله وحده، الذي خلق فأعطى، والذي طلب فأعان، ونصر المستضعفين، وألّف بين قلوبهم، حتى صاروا أمّةً دون الأمم، ستخضع لها سائر الأمم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.