زواج إسلامي علي الطريقة الكاثوليكية !

نبض البلد -
بقلم : معصوم مرزوق 

بدأت الحكاية ذات يوم في كيتو / الأكوادور ، حين اقتربت إحدي فتيات أسرة فلسطينية مهاجرة منذ بداية القرن الماضي ، والفتاة " ليلي " تمثل الجيل الثالث من تلك الأسرة .

كانت لا تعرف سوي كلمات قليلة من العربية التي لا يجيدها في الأسرة سوي الجد ، وكانت الأسرة علي علاقة طيبة بأجيال متتالية من الدبلوماسيين المصريين الذين خدموا في الإكوادور .

في حفل استقبال بمنزل السفير اقتربت ليلي كي تتعرف علي الدبلوماسي المصري الشاب الجديد ، ودار بينهما حديث تقليدي عن الطقس ، وبعض اخبار السياسة ، وقبل أن تنصرف سألها الدبلوماسي الشاب ببراءة عما إذا كانت تزور فلسطين ؟ .

وكأنما فتح السؤال جرحاً عميقاً ، أو حرك حجراً من فوق فوهة كهف غامض مظلم ، انتقل الحديث فجأة بحرارة إلي مناطق العقائد والهوية ، وكانت ليلي تنصت فاغرة فاها في اشتياق للمزيد .

ولذلك ، لم يكن عجيبا أن يتكرر اللقاء مرات متعددة في أماكن مختلفة ، وكان بعضها لأهداف سياحية بحتة ، حيث آلت علي نفسها أن تكشف له مغاليق السحر في تلك الأرض الجميلة .

تحدثت عن مدي حبها لزوجها " إنريكي" وطفليهما الجميلين ، ولعلم الدبلوماسي أن الأسرة الفلسطينية مسلمة ، لا يزال الكبار فيها يراعون بعض المظاهر الشكلية للدين ومنها " الجوع " نهار رمضان ، فقد استدعي ذلك من الدبلوماسي المصري الشاب جرأة كي يسألها ذات مرة عن كيفية التوفيق بين عقيدتها وزواجها ، فهي لا تزال تدعي الإسلام ، بينما زوجها " إنريكي " كاثوليكي محافظ لا يفوت صلاة الأحد وهي والطفلان يصاحبونه في ازهي الثياب .

شرحت ليلي ببراءة وبعض الحماس أن الله واحد سواء كان طريقه عبر اقانيم الكنيسة ، أو صلاوات المساجد ( ولم يكن في كيتو وقتها أي مسجد ) .

كانت العلاقة قد تطورت بحيث لم يجد الدبلوماسي غضاضة بأن يصارحها بموقف الدين الإسلامي من زواجها ، ولا يزال يتذكر دهشتها ، بل وغضبها حين احتدت المناقشة ووجد نفسه يتخلي عن كل مقتضيات الدبلوماسية ويقول لها بجرأة جارحة أن علاقتها مع زوجها من نظر الشرع لا تزيد عن علاقة زنا محرم !.

لقد انقطعت ليلي عن اللقاء أو الإتصال لفترة طويلة بعد ذلك الحوار الصاخب ، وكان يلوم نفسه علي صراحته التي رأي أنها لم تكن لتغير واقعاً لدي المئات من الأسر الشامية التي هاجرت إلي دول أمريكا اللاتينية فترة الحكم العثماني في الشرق ، لقد تسبب ما حدث في خسارة شخصية لصداقة مثمرة علي المستوي الشخصي والمهني .

وصباح يوم ممطر ، فوجئ بالسكرتيرة ماريا اوجستا تخبره هاتفيا بأن " ليلي " حضرت لزيارته بالسفارة ، وهي تنتظر في الصالون ، وكان ذلك أمر مبهج ومربك في آن ، فهو كان يتوق لإستئناف ما انقطع من صداقة ، ويحاول انتحال الأعذار كي يقابلها ، ولم يكن قد سبق لها زيارته في السفارة من قبل ، ولا يعرف كي يفسر ذلك للسفير ؟.

سألته بشكل محدد عما إذا كان ما قاله يعكس موقف الشريعة الإسلامية فعلا ، ثم ما الحل وهي تعشق زوجها وأطفالها ؟، لقد تردد في الإجابة ، وحاول التهرب مرات ومرات لكنها أحكمت الحصار ، وكان بطبعه يأبي خداع الآخرين ، فاضطر أن يقول لها في النهاية أن الحل هو أن يشهر " إنريكي " إسلامه ، أو أن تطلق منه !.

طلبت منه بعض الكتب ، ولحسن الحظ كانت هناك مجموعة كتب في الفقه الإسلامي باللغة الأسبانية من إصدارات وزارة الأوقاف ، فقدمها لها .

وغطست ليلي واختفت تماما لأسابيع ، حتي تلقي الدبلوماسي اتصالا هاتفيا من كبير العائلة الفلسطينية يدعوه للقاء في قصره ، وهناك تحدث معه الشيخ مؤنبا لأنه قوض هناء واستقرار حفيدته ، وكان الموقف محرجا للغاية ، ولكن الدبلوماسي تخلص من اللقاء بلباقة واعدا ألا يلتقي بالحفيدة مرة أخري .

كان الدبلوماسي الذي بدأ بالكاد مهنته الدبلوماسية يدرك مدي سيطرة الجانب المحافظ من الكنيسة الكاثوليكية علي الحياة في أمريكا اللاتينية بوجه عام ، وفي المجتمعات الصغيرة بوجه خاص مثل المجتمع الاكوادوري ، وشعر لفترة أن ما اثاره مع ليلي قد يتسبب في مشاكل جمة له وللسفارة التي لا تمارس التبشير الديني ضمن وظائفها.

لم تمض أيام حتي دعته ليلي إلي منزلها الأنيق في إحدي ضواحي كيتو البديعة ، وجدها تنتظره ومعها زوجها علي العشاء ، وفي أثناء ذلك فوجئ بها تطلب منه أن يشرح لإنريكي ما قاله لها بشأن بطلان زواجها منه ، وأوضح إنريكي من جانبه أنها منذ اسابيع أصبحت ممتنعة عليه ، وترفض أي علاقة حميمية معه .

أسقط في يد الدبلوماسي الشاب ، وشعر أنه سقط في حالق ، فبالإضافة للمشاكل الكثيرة التي يمكن أن يثيرها هذا الموضوع في مجتمع كاثوليكي محافظ ، فأن الزوج يشغل وظيفة هامة في جهاز الأمن الإكوادوري ، أي أن المشكلة قد تتجاوز العلاقات الدبلوماسية وتمتد إلي تهديد مباشر لحياته .

كاد أن يضعف ويقدم تفسيرات كمخرج للزوجين ، ولكنه تذكر أن أباه كان ينصحه دائماً بأن " الصدق منجي ، وإن المروءة تقتضي قول الحق " .. فبدأ الرد بالقول :" لقد قال الإنجيل أن الحقيقة تصنع منا أحراراً " ، ثم طفق بكل ادب يشرح سلامة موقفه .

قالت ليلي انها أعطت الكتب التي طلبتها  إلي زوجها كي يشهر أسلامه ، ولكنه غير مقتنع بما قرأه ويريد المراجعة مع الدبلوماسي المصري صديق العائلة .

اتفقوا في تلك الليلة التي لا تنسي علي أن يلتقي الدبلوماسي مرتين أسبوعيا مع إنريكي للمناقشة ومحاولة إقناعه ، لمدة شهرين ، فإذا أصر علي موقفه ، إسلمها شهادة ممهورة من السفارة كي تطلق منه رسمياً ، قالت ذلك وعينيها مغرورقتين بالدموع .

حضرت ليلي كل اللقاءات مع زوجها فيما بعد ، واتضح أنها لم تكتف بما قراته من كتب السفارة وإنما توسعت في ذلك حتي صارت الحقائق لديها عين يقين ، ليس هذا فحسب ، بل أنها نجحت في إقناع شقيقها الذي كان يدرس في إسبانيا ، وعاد ومعه خطيبته الإسبانية كي يتزوجا في كيتو في افخر فنادقها ، وطلبت ليلي أن يشرف الدبلوماسي المصري علي مراسم الزواج علي الطريقة الأسلامية مع مراعاة بعض المظاهر الشكلية في الإحتفال حتي تتمكن العروس جلاديس أن ترسل صور الفرح إلي أسرتها علي اعتبار أنه تم في كنيسة .

وقبل موعد الفرح بأسبوع ، حضر إنريكي وحده إلي مقر السفارة ، وطلب أن يشهر إسلامه بين يدي الدبلوماسي المصري ، ويتسلم شهادة رسمية بذلك ، وقد أكد عليه الدبلوماسي أهمية أن يكون مقتنعا ولا يكون الهدف فقط هو الأبقاء علي زوجته ، وسمع من إنريكي ما يؤكد أنه أصبح مقتنعا تماما بما يقوم به .

وبعد اسبوع ، كان الدبلوماسي المصري ، يتولي مراسم زواج شقيق ليلي ، بمضمون إسلامي ، ومظاهر مسيحية ، بدأه بقراءة سورة الرحمن بصوت رخيم ، أعقبه بتلاوة كلمة سبق إعدادها عن قيمة الأسرة في الإسلام ، ثم وقف العروسان بين يديه وهو يتلو عليهما الإيجاب والقبول ، ثم اعلنهما زوجين وطلب من الزوج أن يقبل زوجته بين تصفيق وصياح الحضور من علية المجتمع الإكوادوري .

وقبل أن يغادر الدبلوماسي مهام عمله في الإكوادور بعد أربعة أعوام ثرية ، أصبح لكيتو مسجدا ترفع فيه شعائر الإسلام لأول مرة منذ أن فتحها الغزاة الإسبان الذين قضوا علي الحضارة الإسلامية في إسبانيا  

( الصور المرفقة عن مراسم الزواج نشرت في كل الصحف والمجلات الإكوادرية آنذاك ).