نبض البلد - لهيب عبدالخالق -كاتبة عراقية تقيم في كندا-
ما زلنا نتعلم الكثير من شعر أستاذنا حميد سعيد، الذي يفتح لنا آفاقًا جديدة في الكتابة والرؤية. وأقدم بتواضع قراءة ورؤية تحليلية جمالية في قصيدته "رؤيا ملجأ العامرية"، محاولة استكشاف بنيتها الملحمية وموسيقاها العميقة.
1. البنية الأسطورية والملحمية:
تستدعي القصيدة فضاءً ملحميًا مشحونًا بالإرث البابلي والسومري، حيث يتماهى الخراب التاريخي مع الخراب المعاصر. يستعيد حميد سعيد سرديات الوعود والحرائق، ويربط مأساة ملجأ العامرية بتراجيديات الأساطير الرافدينية، كما يستحضر أنانا، الإلهة الأم والمعبودة الخصبة، ليعكس مفارقة العقم والموت التي جلبتها الحرب. هذه التناصات مع الميثولوجيا القديمة تجعل النص ملحمة حداثية، تسرد الخراب لا بوصفه حادثًا منفصلًا، بل كقدر متجدد ومتكرر.
2. البنية السردية والاسترجاع التاريخي:
القصيدة لا تسير وفق نسق خطيّ، بل تتشظى بين الحاضر والماضي، بين ملجأ العامرية وأساطير بابل، بين حروب الجنود وصرخات الأطفال، بين الجحيم الأرضي والجنات الضائعة. هذا التشظي الزمني يخلق إحساسًا باللازمنية، وكأن الدمار كيان ثابت يتنقل عبر العصور.
3. اللغة والصور الشعرية:
لغة القصيدة تفيض برمزية ثقيلة، تزاوج بين الواقع الحسي والأسطوري، فتصبح القنابل "شوْكَ القبور"، والدماء "زينات" الملجأ، والعواصف "تقطع أرحام البابليات". هذا التوظيف الكثيف للمجاز يجعل من الصور الشعرية حمولة دلالية عالية التأثير، تُحيل القارئ إلى تأمل المأساة عبر وسيط شعري يكثف الفاجعة دون أن يغرق في المباشرة الخطابية.
4. ثنائية المقدس والمدنس:
تستخدم القصيدة ثنائية المقدس والمدنس بطريقة تناقضية، حيث تتداخل رموز الطهارة الإلهية (المساجد، الصلاة، الأرحام، الطلع، وضوء أم البنين) مع أفعال الخراب والقتل والحرائق. هذه الثنائية تعكس مأساة العصر الحديث، حيث تصبح الأديان والوعود السماوية بلا فاعلية أمام وحشية القوة العمياء.
5. التناص مع الأدب العالمي:
يبدو الشاعر واعيًا بالإرث الثقافي العالمي، حيث يُحيل إلى أعمال رامبو، وشكسبير، وماتيس، وفان كوخ، وموزارت، ودالي، وغيرهم. لكنه يضع هذه الرموز ضمن سياق من الشك، متسائلًا عن جدوى الحضارة الغربية التي أنتجت هذا الفن لكنها أيضًا أنتجت الحروب والدمار. هذه المقاربة تمنح القصيدة أفقًا فلسفيًا يتجاوز البكائيات التقليدية إلى نقد حضاري شامل.
6. تقنيات الحداثة الشعرية:
تعتمد القصيدة على تقنيات الحداثة الشعرية مثل:
* التناص التاريخي والأسطوري: استحضار الميثولوجيا والتاريخ بطريقة جديدة.
* التكرار الإيقاعي: كالتكرار المتواتر لعبارة "للبابليات وعد الحرائق"، مما يرسخ الإيقاع الكارثي.
* التشظي السردي: حيث تتداخل الأزمنة والأحداث دون تتابع خطي.
* التقابل بين المأساة والجمال: مثل الجمع بين رمزية الموت والألوان الفنية.
7. التأثير العاطفي والتلقي النقدي:
تمتلك القصيدة قوة وجدانية عميقة، فهي لا تقدم المأساة فقط كخبر أو سرد، بل تغمر القارئ في تفاصيلها الحسية، مما يجعلها تجربة جمالية مفعمة بالألم. نقديًا، يمكن وضعها ضمن الشعر الحداثي الذي يستلهم الملحمية ولكن بصياغة جديدة تخرجها من القوالب التقليدية إلى فضاء أكثر تجريبية وتأملًا.
8. الموسيقى الداخلية والإيقاع المتغير:
حميد سعيد في هذه القصيدة لم يلتزم ببحر واحد، بل انتقل بين أوزان مختلفة، وهو أسلوب يُستخدم في القصائد الطويلة ذات الطابع الملحمي، حيث يسمح التنويع الوزني بالتنقل بين المشاهد والتصاوير المختلفة، مما يخلق تناغمًا موسيقيًا يتناسب مع تدفق العواطف والأحداث.
* استخدم الشاعر التكرار الإيقاعي، كما في "للبابليات وعد الحرائق"، وهو ما يعزز النغم الداخلي ويضفي بُعدًا نشيديًا قريبًا من الترانيم القديمة أو الأناشيد الدينية.
* هناك تنوع في التفعيلات، حيث يبدأ أحيانًا بإيقاع ثقيل حزين، ثم ينتقل إلى إيقاع أسرع أو أكثر حدّة، كأنه يحاكي وقع القنابل أو أنفاس الناجين المتقطعة.
* استخدام الألفاظ الصوتية القوية التي تعزز الموسيقى، مثل "الجحيم"، "العواصف"، "النار"، "الخراب"، مما يجعل الإيقاع أكثر تأثيرًا وقوة.
* الوقفات العروضية غير المنتظمة تخلق توترًا موسيقيًا، وهو ما ينسجم مع طبيعة القصيدة التي تصف حدثًا كارثيًا يتسم بالتشظي والتوتر.
9. التأثير الموسيقي في التجربة الشعورية:
لا يمكن قراءة القصيدة دون الشعور بأن الموسيقى ليست مجرد زينة بل هي عنصر جوهري في البناء الدرامي، فهي تعكس الصدمة، الألم، الحنين، وحتى السخرية أحيانًا. هذه الموسيقى المتغيرة تجعل القارئ يعيش التجربة وكأنه يسمع صوت القنابل، صراخ الأطفال، أو حتى همسات الأمهات وهن يجمعن أشلاء أطفالهن.
10. مقاربة مع الشعر الملحمي القديم:
هذا الأسلوب الموسيقي يقترب من القصائد الملحمية البابلية والسومرية، التي كانت تُنشد بتكرار عبارات معينة وبإيقاع متغير يتناسب مع طبيعة السرد، مما يعزز البعد الغنائي للقصيدة، وكأنها تُحاكي التراتيل الحزينة أو مراثي المدن الضائعة.
إجمالًا، الشاعر هنا لا يوظف الوزن والإيقاع كإطار خارجي فحسب، بل كمكوّن داخلي يعزز البنية الدلالية، ليجعل القارئ ليس فقط يقرأ المأساة، بل يسمعها ويشعر بها على مستوى موسيقي وروحي عميق.
الخاتمة:
قصيدة "رؤيا ملجأ العامرية" ليست مجرد رثاء لمأساة تاريخية، بل هي عمل شعري يتجاوز التوثيق إلى تأسيس رؤية فلسفية وأسطورية للمأساة. إنها قصيدة ملحمية بامتياز، تحمل صدى النواح البابلي وتراجيديات الشعوب المقهورة، لكنها في الوقت نفسه تُعيد مساءلة الحضارة برمتها، واضعةً الفن والحرب في مواجهة ساخرة ومأساوية في آنٍ واحد.