المفكر الجزائري يحيي بلحسن: سبب ضعف البحث في العلوم الاجتماعية بعالمنا العربي انعدام هامش الحرية

نبض البلد -


-الكتاب في عصرنا الحالي يصعب التلاعب في محتواه

-الفكر الإسلامي المعاصر ظل مقلدًا ل
الجابري وأركون

الثقافة العربية المعاصرة متعددة بسبب اختلاف تعاملها مع التراث

-التراث إرث الثقافي ورثناه وهو غني ومتعدد ومتنوع

 حوار سليم النجار

عندما امتدت من النافذة حزمة ضوئية، متوهجة وحارة، وسحب خيالي إلى الأخطبوط المعلّق في نقطة ما في سقف شقتي الرمادي، بينما أذرع كلماتي واللغة في شرايين المدينة، أقنعت نفسي بقرار ديمقراطي أنه من المفيد أن أجعل حواري مع الدكتور يحيي بلحسن الكاتب والباحث الجزائري المقيم في فرنسا، أن تلسع الشمس في الخارج. 
ألف الدكتور يحيى العديد من الدراسات منها: "أثر النقل الشفهي في الثقافة الإسلامية الأولى"، مجلة الحضارة الإسلامية، وهران -٢٠١٩ وكتاب: "صحفية المدينة - قراءة نقدية" دار جورجيا براس- ٢٠٢١. 
الحوار في عالمنا العربي مع المفكرين، يكون حضورًا عالميًّا، يفرق بين "العلم والشفاهي" إذ العلم هو الفضاء الحر الذي يتسع للجميع، والشفاهي ضيف يتستر خلف ألف حجاب وحجاب.
فكان الحوار مع الدكتور يحيي بلحسن على الشكل التالي: 


س .. هل النص تاريخ أم تأريخ؟ عدّ النص الديني تاريخًا وتأريخًا في آن واحد فهو تاريخ عندما ننظر إليه نظرة زمنية تنطلق من حاضرنا إلى الماضي الذي وُجد فيه، وهو تأريخ بحكم أنه يعكس سياقاته وظروفه.

ج .. هل الذاكرة لعبت دورًا ما في تأويل النص؟ أكيد، وهذا ما حاولت توضيحه في كتابي؛ فالذاكرة ليست آلة جامدة جافة، بل هي حية متحركة تضيف وتحذف وتوسع وتضيق انطلاقًا من أسسها الإنسانية نفسها.
 كيف أعرّف التراث؟ جوابي المختصر والمتواضع يكون كالتالي: التراث هو الإرث الثقافي الذي ورثناه وهو غني ومتعدد ومتنوع: من فقه وتفسير وعلم حديث وعلم كلام وفلسفة وتصوف. هو باختصار اجتهاد القدماء، بما توفر لهم من إمكانيات علمية وبما أتاحه لهم عصرهم، في فهم النص القرآني وتطبيقات النبي وفي فهم الواقع الإنساني الخاص والعام وتنزيل الأحكام عليه.

س.. ما الفرق بين الكتاب في عصرنا الحالي وفي عصر التراث؟

ج.. ثمة فروقات كثيرة تعرض كتابي لبعضها، ولعل أهمها هي: أن الكتاب الحديث يُعد كتابًا بعد أن يُطبع وتُذاع طبعته فيصعب التلاعب بمحتواه، في حين أن الكتاب التراثي كان يعتمد على النقل الشفهي وعلى النسخ اليدوي، وهما وسيلتان محدودتان. يسهل من خلالهما  التلاعب عمدًا  بمحتوى الكتاب/المكتوب، ويكثر الخطأ العفوي غير المتعمد كذلك في نقل محتواه.

س .. ما سبب ضعف البحث في العلوم الإنسانية في عالمنا العربي؟ 
ج .. هناك أسباب عديدة، لعل أهمها نقص وأحيانًا انعدام هامش الحرية. الباحث الجاد في المجال الإنساني، وخلافًا للباحث في العلوم الدقيقة، يجد نفسه في مواجهة مع المجتمع وسلطاته المتعددة.

س .. هل نملك القدرة للتفريق بين النص وصاحبه؟ 
ج .. أظن أن هذا الأصل المعرفي لم ينل حقه من الدراسة من قبل، وأظن أن كتابي سلّط عليه قليلاً من الضوء وأرجو أن أواصل البحث فيه في كتاب قادم.. هذا التماهي بين النص وصاحبه (بين النص القرآني والله/ بين الحديث والنبي محمد) نقل القداسة من مجال إلى آخر، فكُفِّر من أنكر دلالة حديث ما، وأُخرج من الملة من توقف في دلالة آية قرآنية. أزعم أن هذا الأصل لا يزال يحتاج إلى مزيد بحث.

س .. كيف نقرأ النص المقدس في عصرنا الحالي؟
ج.. باختصار يمكن القول إن قراءته تحتاج أولا الاشتغال على ما هو مرحلي/ نسبي في النص، وما هو حقيقة مطلقة دائمة. الفرز بين هذا وذاك يحتاج إلى مجهود بحثي كبير. ولا يمكننا بعد ذلك إلا العودة إلى واقعنا المحلي/الإقليمي/العالمي لفهم ما هو ثابت حقيقي في هذا الواقع فينبغي التشبث به، وما هو ظاهري زائف يمكن التخلص منه. هاتان العمليتان متلازمان وعلى ضوئهما يمكن قراءة النص الديني.

س.. هل يمكن أن تحدثنا عن ظاهرة الشفهي والكتابي في الدراسات، وخاصة في المجال التاريخي؟ 
ج.. كتابي تعرض لهذه النقطة، فأنا أدعو القارئ أن يعود إليه. ما يمكن إضافته ها هنا أنه مع الأسف لم يهتم المفكرون المسلمون المعاصرون بهذه الظاهرة، ولعلهم رأوا أنه لا جدوى منها، مع أن الجدوى تكمن بتصوري في أن قراءات وتأويلات النص وهو متحرك، أو على الأقل ونحن نستصحب حركته من الشفهي إلى الكتابي، ستكون مختلفة ونحن نتعامل مع نص مدوّن مقيّد نظن بناء على ذلك أنه مكتمل الأركان. ثم ثمة ظاهرة مؤسفة وهو أن الفكر الإسلامي المعاصر رغم ادعائه الحرية والنقد، ظل بوعي أو دون وعي مقلّدا للأسس التي رسمها المؤسسون الأوائل لهذا الفكر النقدي (أقصد الجابري/ أركون وغيرهما) وبما أن هؤلاء لم يهتموا حقا بالبعد الشفهي/الكتابي في الثقافة الإسلامية المبكرة فكانت الكتابات اللاحقة في هذا الشأن شبه منعدمة.
المقصود من عنوان كتابي "الشفهي والكتابي في الثقافة الإسلامية المبكرة": استصحاب الأصل الشفهي، الذي مرّ عبر قناته النص قبل أن يستقرّ في المدوّنات النصية، يحررنا أكثر من ثقل النص، ويجعلنا ندرك أن النص الديني أخذ مسارًا إنسانيًا ما. وتحررنا من ثقله لا يعني الرمي به جانبا، لكن يعني في تصوري أن هذا يمكّننا من التعامل معه بأكثر شفافية وبحضور إنساني أقوى. فإذا كان القدماء أو بعضهم على الأقل أوّلوا النص بالمصلحة المرسلة مثلا، فما الذي يمنعنا في عصر معقد متشابك أن نوسع دلالة النص أو نقيدها مثلا.

س.. ما الفائدة من دراسة الشفهي/الكتابي؟ 
ج .. أظن أن المطلع على كتابي سيرى الجواب واضحًا على هذا السؤال. يمكنني أن أقول هنا حتى لا أطيل: أظن أننا لا نعيش أزمة نص ولكننا نعيش أزمة معنى؛ أي أن الذي يقيد حركتنا ليس النص في ذاته ولكن المُقيِّد هو اكتفاؤنا بقراءات قديمة لم يعد لها مكان في زمننا، والاكتفاء كذلك بأصول ومناهج للقراءة رسمها باقتدار في زمنهم القدماء. أتصوّر أن استصحاب ظاهرة الشفهي والكتابي في قراءتنا للنص يحررنا من سطوة النص، ويحررنا كذلك من ذلك الربط غير المبرّر بين النص وصاحبه. إن الآية القرآنية الكريمة "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" (الكهف/109)،، تدل صراحة على أن الله تعالى أعلم وأعظم من أي نص نتداوله بقراءاتنا المختلفة.