كلينسكي وتدرجه ولينين وعنفه نابليون وخبثه، ومن رفض إصلاحات لافييت الفرنسي حصل على دموية روبسبير. يبدو أن التاريخ كما قال هيجل دورة ولكن من يتعض. ومع ذلك يريد هذا الإنسان أن يحمل الإنسانية على ما يرى أنه صواب. فقد أغرق العالم اليوم بالصور لما يتخيل أنه المستقبل أو الحل، ولكنه في الحقيقة لم يكن يملك في يوم حلا، بل حتى أفكاره ومعتقداته يدين بها للإنسان الشرقي.
يقف الغرب اليوم على مفترق طرق بما يتعلق بالإنسان، عفوا أيها الغربي، ربما تعجبني طريقتك وإختراعاتك وعلمك، ولكنك لا تملك أن تكون قائدا في هذه الحياة لأنك لا ترى إلا نفسك. وتبقى الصورة المقابلة لهذه الصورة هي ما نراه اليوم من أشباه البشر ، ذلك الذي يتبع شهوة هنا وإنحراف هناك، وفكرة صبيانية او شعورا بالتفوق او عنصرية بصورة حضارية. وللأسف غرق الشرق أيضا في كثير من هذه الأمراض ،وابتعد عما يصلح شأنه وهي الأخلاق وتطبيقها، وإن كان يدعي أنه بريء من هذه الامراض ولكنه عمليا غارق فيها.
نعم لقد إستطاع الغرب ان ينجح في بعض المساقات بل تميز فيها، فهو نجح في نظام الحكم وأن يكون الرئيس تابعا وأمره بيد شعبه حتى لا يستبد بهم بل هم من يتولى أمره. ونجح في العلوم والصناعة والزراعة أيضا، ولكنه فشل فشلا ذريعا في قيادة الإنسانية إلى برّ الأمان، وهذا هو الفرق بين من يتولى أمر الناس ليقوم بخدمتهم ويحرص على منفعتهم ويرفع شأنهم. وبين من يتولى أمرهم ليقوم الناس بخدمته هو وبقائه هو.
هو حائر لا يعرف ما هو الصواب، ولكنه يريد أن يفرض حياته وحيرته على ما فيها على هذا العالم هو يرى نفسه وصيا على هذه البشرية التي لا تعرف طريقها. وكيف لا.. وهو من أفنى أجناسا من البشر أو كاد يفنيها هنود حمر، شعب استراليا الأصلي وكذلك نيوزلاندا، ومن قبل ذلك شعوب أمريكا الجنوبية فقدت تسعين بالمائة من سكانها حين غزاها الرجل الأبيض بأمراضه وجراثيمه وفيروساته، بل حتى هو دفع ثمنا بالغا لهذه الأعراض التي يعاني منها، وتلك الرؤى التي يريد فرضها على هذا العالم، فقد خسرت أوروبا عشرة ملايين في الحرب العالمية الأولى وقرابة ستين مليونا قي الحرب العالمية الثانية.
يقول الكواكبي إن الثورات تحدث بسبب عموم الإحساس بالظلم، وفي قصيدة رائعة لإيليا أبو ماضي يصيب الضيق حجر في السد وينزعج من مكانه ويشعر بالملل ويقرر ترك هذا المكان والرحيل وتحدث الكارثة، ويبدو أن الكارثة تحدث بين الغباء والملل !!!
جورج الثالث كان غبيا بإمتياز فبعد خسارة أموال خزينته في الحرب مع فرنسا، قرر فرض ضرائب على المستعمرات البريطانية ومنها امريكا، لأنه لا يستطيع فرض ضرائب على الشعب البريطاني بدون موافقة البرلمان، وذلك بسبب الحرب التي حدثت بين البرلمان والملك وخسر فيها تشارلز الاول واعدم، طبعا هذه الضرائب بصورة طوابع على الوثائق الصادرة من لندن وعلى الشاي وعلى الأخشاب وعلي الكثير من الأمور الأخرى.
تشارلز الأول هذا هو الذي أوقع بريطانيا في الحرب الأهلية، والتي استمرت قرابة ٤٦ عاما ودفع الثمن رأسه في بدايتها، وحكم البرلمان بريطانيا حتى استطاع فيليب ذا اورانج عقد المصالحة وإعادة الملكية بعد هذه الفوضى وهذه النتيجة.ولكن ما الذي حدث مع جورج ؟ حاولت الولايات الأمريكية الموجودة على الشريط الساحلي وعددها ثلاثة عشر ولاية، رفض الضرائب فرفض، ثم حاولت التفاوض على وجود تمثيل في البرلمان في لندن فرفض، وبعدها ظهر شعار لا ضرائب بدون تمثيل، بعدها أعلنوا استقلالهم وحدثت الحرب ثلاثة عشر عاما خسر فيها جورج الثالث واستقلت أمريكا. للمصادفة كانت المغرب أو دولة تعترف بأمريكا، حفظت أمريكا لها ذلك طبعا، ودعمت فرنسا الثورة الأمريكية بكل ما تستطيع، فهي عدوة بريطانيا اللدودة، وخسرت بريطانيا بعدها أغنى مستعمراتها وهي أمريكا. لويس السادس عشر كما قلنا كان أكبر داعم للثورة الأمريكية وافرغ خزائنه فعليا في سبيل دعمها، ثم أراد فرض ضرائب جديدة على الشعب الفرنسي الذي يراقب ما حدث في انجلترا مع الملك منذ مائة عام، بعد خسارة تشارلز ورضوخ الملكية البريطانية لأمر الملكية الدستورية.
على الجهة الأخرى من المانش الفرنسيون يراقبون وكان وضع الملك لويس السادس عشر شبيه بوضع جورج الثالث، ولكنه لم يستوعب الدرس الذي حدث مع جورج ولم يدرك الفرصة الضائعة، فدعا إلى عقد البرلمان ليفرض ضرائب جديدة، وكان البرلمان الفرنسي ثلثه من النبلاء يعينهم الملك والثلث الأخر لرجال الدين يعينهم الملك وثلث يتم انتخابه من قبل الشعب فالملك يملك الثلثين فعليا. الثورة الفرنسية كانت بخلاف الثورة الإنجليزية والامريكية ليست صراع طبقات ومصالح، ولكن كانت ثورة اجتماعية وثورة جياع بين قوسين ضد الطبقات الغنية، حتى أن النساء الفقيرات والفلاحات سرن عشرات الكيلومترات لاقتحام قصر فرساي بأدوات زراعية من أجل الخبز. كان الطلب واحدا ملكية دستورية، ولكن لويس كان يضمر شرا، وتداعت جيوش الملكيات الاوروبية للدفاع عن الملكية الفرنسية ضد ثورة الشعب ولا أدري بما يذكرني هذا، ولكن تم القبض على لويس السادس عشر وهو في طريقه هو وماري انطوانيت إلى النمسا، لتستنجد باخيها الملك ويرسل معهما جيش لقمع الثوار، وتم اعدامهما كما نعلم جميعا. ودخلت فرنسا في نفق مظلم من صراع المصالح والأشخاص والطبقات، حتى جاء نابليون بعد عشر سنين وفي احتفال مهيب حضره البابا عين نفسه امبراطورا، كالمستجير من الرمضاء بالنار ايها الشعب الفرنسي، وبعدها شن نابليون حربا على كل ملوك أوروبا ودفع الملوك ثمن وقوفهم مع لويس، ودخلت أوروبا كلها في الحرب وفرص ضائعة. وبعدها خسر نابليون وأصبح سجينا في سانت هلينا كما هو معلوم، وتم تعيين أخو الملك وغيره، واحتاجت الثورة الفرنسية إلى ٨١ عاما لتدخل في الإستقرار وفرص ضائعة.
في روسيا كان نيكلوس الثاني اخر ملوك روسيا يفرط في الفرصة الضائعة حيث أن الشعب كان يريد فقط ملكية دستورية ضمن طموحات كلينسكي ولكنه رفض، فجاءت الثورة البلشفية وجاء لينين وخسر كل شيء وعائلته أيضا في يوم واحد كما هو معلوم.
وفي إيران كان الشعب يبحث عن فرصة، والفرصة الضائعة كانت هنا للأسرة القاجارية من أصول افغانية هي الحاكمة، وتأثر فقيه إيراني الطبطبائي بكتاب الكواكبي طبائع الاستبداد وترجمه احد طلابه إلى الفارسية، وبدأت ملامح الثورة، فقام الملك رضا شاه في نهاية الأمر بعقد إتفاق مع الثوار الايرانيين بحكم ملكي دستوري واصلاحات دستورية، ولكن حدث أن توفى الملك واستلم الإبن الذي ألغى كل الإصلاحات ودفع عرشه بعد ذلك الثمن، على يد الثائر الذي سيصبح ملكا وينجب ابن ولا يتعلم ابنه من الدرس، رضا البهلوي استلم السلطة بما يشبه الانقلاب العسكري. ودخلت إيران بعدها بعشرين عاما تحت حكم العائلة البهلوية واستمرت في الحكم الى سبعينيات القرن الماضي وسقطت على يد الخمينئي كما نعلم. الفرصة التي اضاعتها الأسرة القاجارية والبهلوية بعدها في التحول السلمي أضاعت حكم فيه إعتدال، واضاعت فقه كان يصوغ مذهب شيعي فيه إعتدال، ويعطي الولاية للشعب بدل الفقيه.
ودفع الملوك والشعوب ثمن هذه الفرص الضائعة.